جئت إلى الجزائر قبل أربعين عاماً مما تعدّون، محملاً ببعد المسافات ومتاهة الجغرافيا، وأوزار من حمل التاريخ، أتيتها في زمنها الجميل، زمن زعيمها الوطني «هواري بو مدين»، أتيتها وقد عرفت جغرافيتها وتاريخها ونساء نضالها، كثاني أكبر الدول العربية مساحة، وأنها أرض المليون شهيد، وأن «جميلة بوحيرد» المسكونة بالوطن وجدت لها ظل مدرسة عندنا، وتسمت باسمها منذ ذلك الوقت البعيد، هذه المناضلة الجميلة، والتي سأتذكرها بعد ثلاثين سنة، وقد أيقن الكثير من الناس أنها فارقت دنيانا، وأظهرتها بصورتها الجديدة الملونة، بعدما عرفنا صورها بالأبيض والأسود. جئت الجزائر، وكنت أبحث عن ظلي العربي هناك، ظلي «الموريسكي» الذي هناك، غير أني لم أجده حينها لا في الجزائر العاصمة ولا في عنابة، ولا مدن أخرى، ووجدته في حانوت ورّاق في عدن، حيث سلّمني كتاباً بحجم الكف، وكان بعنوان «وقع الأحذية الخشنة»، ومشاغبات الكاتب «واسيني الأعرج» في القص والنص، وبعد مضي عام كنت في جزء من دمشق القديمة، حيث سلّمني «الجندي» في مكتبته العريقة كتاباً عن ذلك الظل العربي الذي أتبعه وأتابعه وأتتبعه، لا أدري حينها إن كان كتاب «نوّار اللوز» أو كتاب «حكاية الطيب المسيردي»، وفي منتصف التسعينيات التقينا وجهاً لوجه أثناء انعقاد مؤتمر اتحاد الكتّاب والأدباء العرب في مدينة المحمدية، وجلسنا نتجاذب حديثاً طويلاً وشيقاً، تحول إلى مقابلة صحفية، وجلسات تصوير فوتوغرافي، وبعدها تلاقينا في المدن الكثيرة لعل باريس وأبوظبي أكثرهما، لا أدري لمَ أتذكر كل تلك التفاصيل وأنا الآن أجلس على منصة واحدة في صالون الجزائر للكتاب معه، هو بقي روائياً استثنائياً، وأنا بقيت مخلصاً للقص.
عرفت الجزائر فيما بعد من خلال «الطاهر وطّار، وكاتب يس ورشيد بو جدرة» وغيرهم، رأيتها بصرياً لأول مرة من خلال المخرج السينمائي «الأخضر حامينا»، وفيلمه «وقائع سنوات الجمر»، ومن خلال تلك الأغاني لتلك المغنية بوجهها الناعم الجميل، والتي تختصر من خلاله المطربة «ميراي ماثيو» بأغنية «يما لا لي.. لا لي لا لي.. يما لال»، وأغنية «راشرش».
كنت وقتها في ذلك الوقت الجميل، أبحث عن طائر جميل ربما يغرد في حديقتي الصغيرة، وربما يجعل من طيوري الصغيرة ورداً في تلك الحديقة، وربما يحفني بأجنحته الأنثوية نحو فضاءات الحياة الجميلة والملونة، لأنني مثل «حامل الهوى تَعِبُ   يستخِفُّه الطرَبُ»!