كنت ألتقي صديقي الشاعر الجميل كلما عن علينا الالتقاء، في أزمنة رحلت، وظل المكان كما كان، مساحة صغيرة وفي سكة ضيقة جداً، بالكاد يتسع لعدد قليل من ناس السكيك، عالم آخر جلهم من الهنود البسطاء «ملبارية» يحملون قلوباً طيبة جداً، وعلى مستوى الدخل الضعيف يصرفون ما حوته جيوبهم المثقوبة دائماً، يكفي ثلاثة دراهم لفطوره وضعف هذا المبلغ للعشاء وثلاثة أضعافه للغداء، تمتد السكيك حاملة صخب ناسها الذين يعرفون مسالكها وتعرجاتها، أركان تحتلها مقاهٍ صغيرة ودكاكين صغيرة أيضاً لها بضاعتها الخاصة والتي تناسب رواد تلك الأمكنة، أمكنة جميلة على الرغم من فقرها، بشر يفرحون بمحطاتهم الفقيرة هذه، روائح الطعام الشرقي تملأ السكيك وتجذب الجميع في المساءات، عندما يستريح هؤلاء «الشغيلة» من كد يوم طويل، أحاديث لا تنقطع ولعلها إعادة لذاكرة أوطانهم أو أنها تسلية لنسيان كد الشغل والتعب، أجلس مع ذلك الصديق فترات قصيرة ولكنها جميلة مع الشاي وحبات السمبوسة و«البراتا»، شيء جديد غير الأكلات المعتادة، يخرج من مخلاته قصاصات أوراق قصائده وينثرها في فضاء المكان، يطرب معها فضاء السكيك وأطالبه بالمزيد، يقول هنا أشعر بأن الناس صافية الاستماع، وإن كانت اللغة حاجزاً كبيراً، هنا الناس على سجيتها وطبيعتها مثل القصيدة الحقيقية التي لا ينتظر صاحبها التصفيق ولا المديح أو جهاز إعلامي يدبج للقصيدة ويمهد لها أو يزين صاحبها ويضع له ألف إطار ذهبي.
ذهبت تلك الأيام الجميلة ولم يتبق غير مقاهي السكيك ومطاعمها الصغيرة، غبنا نحن أيضاً وأصبحنا ممن يتزين للمقاهي والمولات، نراقب ملابسنا ونختار عطورنا ونحتل الزوايا والأركان، أمر قد يتطلبه الزمن وحركته ودورته الجديدة عالم جميل أيضاً وحقيقة أن الحياة «ديالكتيك» متغيرة وواجبة التتبع والاندماج في الحياة الجديدة، إنها خلق جديد وعلام يكبر ويندمج ويسابر الحياة والتغير.
نعتاد على هذا الجديد ويأسرنا ويأخذنا معه في مسيرة الزمن والحياة، وقد ننسى، الكثير من زوايا الحياة الأخرى ولناس آخرين يعيشون في هذه المدن الجديدة والحضارية، تغيب صور السكيك وجمال حياة الآخرين من البشر.
بالأمس صحبني صديقي الفلبيني إلى أماكن كنت أعرفها قديماً، قال لن أتحدث عن عالم المطاعم الآسيوية البسيطة، ولكن تعال نغير جلسة المقاهي والمطاعم في الأماكن الجديدة والزوايا والشوارع الجميلة والجديدة التي زينت وأعدت بالأحدث والأرقى من الديكورات والإضاءة وفخامة الأمكنة، في الأماكن هذه كثر يحملون فخامة الأكسسوارات وزيف المظهر، ولكن يحتاجون إلى عمار الداخل، لم أعلق بشيء لأنه يطرق حقيقة بعضهم!
مررنا بسكيك متعرجة وزوايا كثيرة ضيقة ثم استقبلتنا روائح الطعام، وعلى مقعد صغير من البلاستيك جلسنا ننتظر ما سيأتي من طعام اختاره لنفسه بينما اعتذرت عن تناول أي طعام واكتفيت بالشراب، عالم جميل من الآسيويين تملأ قلوبهم فرحة أن يلتقوا مع بعضهم، ضحكات عالية، تتداخل الطاولات، وليس بينهم من يصيبه الكدر من ضجيج الصحون والأكواب وكأن الزمن يعيدني إلى ذلك الجمال والجلسات البديعة مع أصدقاء غيبتهم الظروف والحياة، ولكن ظلوا شمعة مضيئة لأزمنة مضيئة.