تشبه الصومعة بعض الزوايا، أركان تنزوي بعيداً عن الضجيج ومساحات مفتوحة لناس كثر، تكثر الثرثرة، وتمد أصواتها بعض الوقت عالياً وبعيداً حتى تنال من هدوء الزوايا، وكأن الأوقات موزعة على الرواد بين صباح مشرق ومساء يلفه الهدوء، يأتون فرادى أو جماعات يقتلون الوقت، ثم يرحلون إلى الطرقات والسكيك الضيقة، أو تنطلق بهم السيارات والتي يصر بعضهم على استعراضها ويود أن تدخل معه المقهى، يزاحم المداخل ويكاد يحملها إلى الرصيف الملاصق لزجاج المقهى، يأتون كل لغايته أو لقتل وقت الفراغ، وبعضهم لأنه يعيش الفراغ كل الوقت، فإن طاولاتهم وكراسيهم لا تكاد ترتاح من جلوسهم الطويل.
أجمل الزوايا في صومعة المقهى، تلك التي تسكن بعيداً عن هذه الجلبة والضجيج، ركن هادئ لا يزيد جلاسه على شخصين أو أكثر قليلاً، نادراً ما تخرج الأصوات أو تعلو من تلك الزاوية.
في هذه الزاوية يلتقي اثنان تسمع حواراتهما المتقاطعة وأفكارهما التي لا تتفق على شيء واحد، إن قال الأول هذا أخضر، رد عليه الآخر لا، هذا أزرق، وإن أورد أحدهما حكاية أو قال رأياً في شأن من شؤون الحياة، رد عليه الآخر بما يناقض رأيه وأفكاره وتوجهاته ومغزاه، متقاطعين ومتناقضين في الرؤيا والفكر، ولكنهما يلتقيان في زاوية المقهى دائماً، بل معظم أيام الأسبوع تقريباً، تحتار ما الذي يجعلهما يأتيان ويتسامران إذا كان هذا التناقض والاختلاف في التفكير والرؤيا ومفهوم الحياة..!
هل هي عادة أو حاجة إلى فترة جدل متناقض أو قتل الوقت، أو أن هذا المقهى والصومعة هي الأقرب لمساكنهما أو أن بعضهم يحتاج إلى الجدال فقط.
لا يتشابهان أبداً حتى في المظهر الخارجي وفي الشكل والسمات، أحدهم يميل إلى الهدوء والصوت المنخفض قليلاً، والآخر يميل إلى التداخل مع الآخرين والعصبية التي تظهر اتجاه من يمسه بأي حركة أو تصرف لا يرغبه، كثيراً ما تظهر عصبيته على النادل، إن ارتكب خطأ بسيطاً أو قصّر في إحضار ما تعوَّد أن يجده على الطاولة، لذلك يحرص النادل على التأكد من أن كل شيء مرتب كما اعتاد أن يجده على الطاولة.
هذه الزاوية أو الصومعة تكاد أن تكون محجوزة دائماً لهذين الشخصين المتناقضين في التفكير والرؤيا، ولكنهما يلتقيان في صومعة التناقض!
يتساءل بعضهم من رواد المقهى، كيف يستمر هذا اللقاء والتواصل في ظل هذا التناقض، في الوقت الذي لا يطيق بعضهم أن يجلس على مقهى به ما يزعجك، سواء من تصرفات بعضهم فيه أو سوء القهوة أو الشاي، بل حتى الإضاءة أو الديكور أو الموسيقى العالية أو الصاخبة، لا شيء غير العادة والتعود على الحضور إلى هذا المقهى وتجرع مرارة التناقض لقتل ساعة أو أكثر من الوقت، لا يهم أن يعجبك كل شيء، ولكن للمكان والزوايا سلطتها وحبها بعض الوقت، وإن لم يكن كل شيء كما تشتهي.
ظل هكذا حتى غاب فجأة أحدهما ولم يتبق في الصومعة غير مقعد وطاولة  يجلس عليها أحدهما والنادل في غاية الحرص أن يكون كل شيء مرتباً كما كان حتى لا يزجره العصبي.