لأنه الرضاب السماوي؛ لأنه ريق الغيمة، لأنه دمعة الفرح، لأنه قطرة النماء، لأنه اللمسة الضافية على خد، وقد، لأنه الهمزة الواصلة ما بين الرمش وحبة الرمل، لأنه النقطة في عمق السطر، لأنه الوصل، والنصل، والفصل، والمصل، والروح التي تجلو عن نفسها غبش الفصول، والقلب الذي يحصد نبضات السحابة، والعقل الذي يتهجى أبجدية الماء في متن الخليق، هو هذا المطر وهو يتمشى على جبين الحالمين بمدينة لا تغيب عنها الغيمة ولا يسلاها المطر، هي هذه المدينة الناعسة، النابسة، القابسة، تسرد في الليلة الماطرة عن قصة خليل، وعى للتو كي يمسد مشاعرها بفصوص الفضي الرهيب، ويغدقها بالعذوبة، حيث هي مدينة تهوى القصيدة المبللة بالندى، وما أخفاه المطر من رعشة، تتشكل في المضمون، لينبت زرع الحياة على ضفاف، وشفة، وتبدو الحياة كأنها مقولة على لسان يسوع «إن لم تولدوا من جديد، لن تدخلوا الجنة».
نعم للمطر ولادة، ونكب، بلا حجب، وعيد يطرز مخمل الأشياء، بإبرة الماء، خيوط التراب اللبيب، نعم إنه المطر على وجنة بلادي كأنه الحلم في أعطاف طفولة، متناهية في البراءة، منتهية إلى سبل التلقائية المبجلة.
شكراً للمطر، عرفني على أخاديد الوجوه وهي تغتسل باللدانة، وتحمي سحناتها بالبلل وتمضي في الفرح أبياتاً من شعر فطري لا تلمسه بحور الشعر، وإنما تحدسه قريحة الفطرة، وتأخذه إلى حيث تكمن الأعماق الجزيلة.
رباه كم لهذا المطر من قصص، أولاها وليست آخرها تلك «النبقة» التي تسلقت جدران السدرة العريقة، وانزرعت عند فيء الأرض، ليلتقمها فم أصغر من خاتم الخنصر، وتتلمضها شفة أشد احمراراً من سطوة الشفافية، كم لهذا المطر من وعي في الذاكرة، أكثر رهافة من وعي الخلائق، عندما يمد أهدابه إلى صفحات التاريخ، فيوقظ ما سكن في القريحة، وينهض به، حيث توجد هناك كنوز من صور، ووجوه، ومشاهد، وأحداث، وشخوص، هناك في صندوق الوعي تكمن الثروة التاريخية، فيشعر المرء بأنه يخلق من جديد، وأنه يرتدي ثوب الطفولة، ويمضي صباحاً يبحث عن بذرة «السعيدوس». يحفر قلب الأرض بأنامل أدق من عود اللبان، حتى يعثر على ضالته من هذه اللقية البرية العظيمة.
رباه كم لهذه النعمة المطرية من بريق في عيون عشاق الحياة، وهم يخطبون الود من غيمة ربما تتمهل، ربما تتساهل في الإفراط بقطرة المطر، ولكنها بعد حين تسخو، وتمطر، ويبدو ضرعها أكثر سخاء من الأم والولد.