أعجب من بعض الناس، تجده منذ نعومة أظافره، وهو يسعى لكي يصبح محاسباً أو مدققاً للحسابات في شركة لها عدة فروع مختلفة، تبدو تلك مهنة شاقة على النفس، بالنسبة لي على الأقل، وفيها القسوة، وطلب السلطة، وتسليط الذات لمراقبة الآخر، واصطياد أخطائه، لكن مثل هؤلاء الناس يحبون تلك المهنة التي يتمنونها بشغف، معتقدين أنهم محاسبون، ولا يحاسبون، وأول الناس شغفاً بتلك المهنة التي لها زيها الرسمي المتزمت، فالواحد منهم ما إن يصبح محاسباً حتى يظل يرتدي تلك البدلة السوداء التي يخفّ لونها تدريجياً نحو الأكحل والأغبر ثم الرمادي المحايد، وبشنطة جلدية ستمكث بيده طويلاً، وأقلام بينها الأحمر بالطبع، ودفتر مقلم بمربعات صغيرة، لا تعرف له جدوى، حينها لا أحد يقوى عليه، فهو الوحيد الذي لا تفوته شاردة ولا واردة، ويعرف الأنظمة والإجراءات المتبعة في عدة دوائر مختلفة، ويمكنه أن يجلس على كرسي خشبي ساعات طوال، ولا يشكو، بتلك النظارة ذات الإطار الأسود السميك، آه.. ما أصعب أن يطلب مني أن أعد الحساب الختامي لنهاية العام المحاسبي أو يطلب مني تقديم خطة خمسية يراعى فيها تقليص المصروفات، وزيادة الإيرادات أو جرد مخازن مثل مخازن «ايكيا»، بعض المهن شاقة، تثقل الصدر، ولو كنت بعيداً عنها!
من تسمع المواطن يقول لك: «شوف لي شرّاي» اعرف أن الأمور ما تسر، وأن الأوضاع غير مستقرة، ولا تسير كما يرام، ولا هي واضحة لقدام، وليست «أموره طيبة» كما يرددون دائماً في الطالعة والنازلة: «أمورك طيبة»!
يا الله.. كم تغيّر الوقت، وتبدلت الأحوال، في الأول كان الصغار يلعبون عند القنصلية البريطانية، ويبقون «يتفارّون» بالحصى طوال النهار، و«يدرّبحون طواوقيهم»، وفي المساء تظل العراقيب التي حولها ملفى للسمّار والندامى، ولا هم سائلين عنها، ولا هي يخصّها بهم، الحين إذا تقدر مرّ بجانبها أو وقّف سيارتك عدّالها أو في الليل إذا تقدر جرّ ربابتك، وانعي بالصوت، متذكراً بيتكم القديم أحذاها!
هناك أناس لديهم لحظة الاشتهاء الأول، وقطف البكور، مستعد أن يشتري مخرافة رطب نغال أو بشرته، ولا يسبقه أحد عليها، ولو بألف ومئتين درهم، يكلّف نفسه، ويروح عقب الظهر إلى «سويحان»، ويقف على الطريق العام ليشتري كرتون فقع بثمانمئة درهم، لأنه موسم الفقع بدأ، وهو لا يقدر أن يقاوم الفقع عقب المطر، مستعد يروح «الباطنة» لأنهم ذكروا له أن «الهمبا» هذا الصيف طلعته وشّبة، ويتوزى كرتون «الهَمّبا» بذيك الحجيه، ولا يهمّه، مستعد أن يغبش قبل الفجر، لسوق السمك، علشان ما يفوته موسم البدح وإلا الجنعد.. ثمة اشتهاء لأول الأشياء لا يمكن أن يقاومه هؤلاء الناس، ويكادون أن يزايدوا على الحرمة في شهورها الثلاثة الأولى! وحدك من يتملكك العجب، وتقول: «والله أو تلك الأشياء تباع عند دكة باب بيتي، ما تعنيت واشتريت، ولو ظهرت الوحمة كبر الروبيّة»!