أولى لقلبكَ أن يذوق فكاكه منكَ، ومن شكواك ضد الدهر والدهرُ أبيض. وأولى أن تدع طوابير النائمين تمشي ولا ترمي حجر اليقظة على رؤوسهم. أنت عبد الحرية الطليق في سجنها. أنت العصفور الخائف في القفص المفتوح. ساقاك طويلتان في انعكاسات الظلال على الجدران، لكنكَ قزمٌ تحت أعمدة الإنارة المطفأة. ومن النوافذ المسكونة بالعيون المتربصة، من وراء ستائرها شبه المغلقة، يراك الصامتون ويدركون في سرّهم مكمن العاهة في نطق قولك. ويراكَ الأبُ والأم وأنت تجري في فراغ الوجود ولا يستطيعان أن ينقذاك حتى بالدمع، كأنك كنت جناحاً وصرت الريشةَ الساقطة منه، وكأن لعبة الدوران في سِيرك اللا نهاية أعجبتكَ، فصرت في عين نفسكَ منذوراً لمعانقة الخلود، وربما قلت لنفسك: أنا ذرة الكون التي لا تفنى، لكنك لا تعرف بعدُ، ما الذي تعنيه كلمة (اللا بداية)، وكيف يوهمك العقلُ بأنك شخصٌ ينتمي إلى ذاته فقط، وما من ذات في الأصل تملكُ أصلها.
حسناً، أغمض عينيك وقل: سأتبعُ النهر وهيهات يخذلني جريانُه. وسد أذنيك إذا اشتدّت الريحُ ودوّى في سكون هذا الكون صفيرُها. ربما تنجو، ربما تحنو عليك الشجرة وتحكّ رأسك بغصنها وتشفيكَ من قمل الذكريات. لكن المرأة في مرآتها لن تسمع بك، ولن يكترث الصيادون لو نُقشَ اسمكَ على جبل. وما يهم في الأمر، أن ما تتوهمه في خيالك السارح، يصير غداً حقيقةً على الورقة. وما تمحوه محواً كي لا يراهُ أحد، يعاود الظهور بشكلٍ أكبر وأشد وضوحاً وفتكاً في شبكة ذكرياتك وأحلامك ووساوس أمانيك.
أنظر. إنهم يروّضون الوحش وأنتَ لا تقوى على أسر فراشة. إنهم أنيقون ببدلات سود في لعبة الشطرنج، وأنت حافٍ تفتّشُ عن نعليك في حديقة الأمس المهجورة. حديقة الأمس التي تيبّست أغصانها وفرّ من خرابها طائر الشك، وهجرتها بومةُ الليل الحزين. أنظر، وحين ستنظر، ليس مهماً أن ترى، ولكن أن تكتشف إلى أين يجذبك انتباهك، وإلى ماذا تُديرُ ظهركَ، وهل ظهركَ وحدهُ سندٌ؟ أشكُّ في هذا، وأشكُّ أيضاً في الفم الذي يصرخ: وجدتها وجدتها وهو لم يذق بعدُ قبلة، ولا سرت في عروق صاحبه رعشة اكتشاف التيه.
ليس سراً أن النار تأكلُ أسرارها، وقد لا تعترف العاصفة بأنها ابنة السكون، وقد يظن الناسُ أن البرقَ أعرج. حسناً، دعهم واقفين هناك وتأمل في كلمة (التلاشي)، وفي احتمال أن تكون هي موجة البث الآتية.