هذه المرة الطريق يبصر جيداً، مسار ملتوٍ بين البيوت القديمة، وإشارات مرورية تتأرجح بالهواء الطلق، والغيم يمر بهدوء من دون إكفهرار، وأنا في حوار ما بين الذات والذاكرة، يرتسم من بدأ السكن في «بسمرفيل»، واتجاه نحو جامعة هارفارد العريقة، طالما تخيلت زيارتها، لذا يبدو ما ينتابني من فرح شديد، كأن الشوق إليها يحمل المشتاق إلى زهاء الحديقة المتقنة، بشيء من الزهور، والإيحاءات الجميلة المستوحاة من التاريخ، وكأن الأمر فيه نسيج من التعابير، عتبات المباني تحمل أسماء وصيت ومعنى، وجامعة ذات كيان ومكانة، وقصة ورؤية، لا تنسى بل تكرس معنى الإصرار، قبل ما يقارب أربعمائة عام، حين تبنى القس هارفارد فكرة جامعة تضاهي «اكسفورد وجامعة كامبريدج»، حتى جعلها فكرة، وحقيقة علمية ومنهجية فريدة، تجلت رؤيتها عميقاً، وأفضت باسمها بعيداً ونسجت العلم والمعرفة، كأول صرح جامعي يحمل المعاني الإنسانية، مثلما حملت أميركا المعنى ذاته عند تأسيسها، حين فتحت ذراعيها لكل الأطياف والأعراق والديانات ولم تقص أحداً، ولم ترفض كل من سعى إليها قادماً من أقطاب المعمورة، وكيف وهي من حمل تمثال الحرية إلى ضفافها، وهل تفعل خلاف ذلك؟ 
جامعة تسبق الزمن في اتساعها وريادتها، فتجعل الزائر في حيرة حقيقية، ومبانيها تختلف بأهميتها وقصصها باختلاف الزمن، لكن أرى في قصة رجل الأعمال هاري «وايدينير» محب وجامع الكتب النادرة والقيمة، وخريج جامعة هارفارد عام 1907م قصة للتأمل أمام مبنى مكتبة «وايدينير»، فقبل مئات الأعوام، تبرعت والدته بجميع كتبه إلى الجامعة، إيقاظاً لذكراه بعد وفاته غرقاً بحادثة السفينة «تاتينك»، إلا أن الأم نجت مع خادمتها، وغرق «وايدينير» وكل من معهم، مما جعلها تشيد المبنى تذكاراً لابنها الراحل، وتتبرع بكل كتبه النادرة والقيمة إلى هذه المكتبة الجميلة ذات المكانة التاريخية وهي مكتبة تضم في أرجائها أكثر من ثلاثة ملايين كتاب، وتحمل مقتنيات تاريخية مهمة وتكرم سنوياً المتفوقين بالبحوث في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وما رفوفها الطويلة والمنسقة بالكتب والمجلدات، وفنون الأصالة المكتبية، إلا دليل قاطع على ضخامة واتساع حجمها ما بين مكتبات العالم.
لا شك أنها جامعة تتسم بحاضر جميل، وماضٍ عريق، يحمل كثيراً من قصص الحياة، تصنع للزائر ولطلبة الجامعة معنى يتسع فكرياً، من خلال اللغات العالمية التي تزخر بها الجامعة وتسند إلى تاريخها وتعبر عن كيان جامعي عالمي متسع الرؤى والثقافات والمحاور الاجتماعية والإنسانية الحرة، وكأن هذا فيه إيقاظ للروح الحياتية بكل تجلياتها فكرياً وذاتياً.