ها قد هرمت، ولا تزال تحمل صخرة الصبر على جسدك الهزيل، وتصعد كل صباح جبل الأمنيات الوعرة. لا تتوب من السعي، ولا يتسرّب الوهنُ إلى عزيمة قلبك. تصعدُ، ونحن نراك وننظر إليك من جهة خوفنا ونسأل: كيف لرجلٍ بساقين مخلخلتين ويدين ترتجفان أن يهزمَ ضعفه كل يوم؟ وأن ينتصر في كل لحظةٍ على فكرة الموت؟ الموت الذي يتخفى في صورٍ كثيرة، الموتُ الذي يسكنُ في الأجساد المتراخية والمترددة، الموت الذي ينهشُ النفوس الغارقة في اكتئابها؟ ما الذي يجعل من الإنسان توّاقاً لرؤية الضوء حتى النفس الأخير؟ وما الذي، على العكس، يدفن الروح في عتمة الانطواء ويجعل صاحبها أسير العزلة والخواء؟ هكذا سنظل نسأل حتى تأكلنا الحيرة، بينما تواصل أنت صعودك للقمة المستحيلة وهناك تفرد جناحيك وتطلق صرخة الحرية وتبدأ بعدها بالطيران.
نناديك: أيها الحكيم العجوز. من أين جئت بهذه الصلابة كي تشقّ خدر الأيام وتذهب وحدك لمعانقة الدهشة، فاتحاً الحدود الواهية للعقل، ومستكشفاً أين تنام الحكمة، وأين مخبؤها، وفي أي تيهٍ سيكون مرساها. وأذكر أننا سمعناك تمجّد الصمت في تأملاتك لأن فيه كما تقول، سرّ أسرار الكون. ثم سمعناك تنطق بكلمة (المحبة) وترفعها تاجاً في أغانيك وسريان لحنك. ولم ندرك أن التوازي بين السكوت والكلام هو مربط حكمتك العظيمة، وأن التوازن بين الجلوس متأملاً وبين السعي جرياً كما الأنهار، هو لبُّ وفحوى ابتهاجك بالحياة. هكذا كنت تتلو علينا درس اليقظة من غير أن تُسهب في الشروح، وهكذا كنت ترمي جمرة الانتباه في وحشة أيامنا وتشعل بيننا رغبة الانعتاق من الألم، رغبة التحرر من الرغبة نفسها، بأن نكون أسياداً على مصائرنا، وألا تكون أرواحنا مشاعاً للجهل والوهم وضياع الطريق. وهو درس فن المرور بين المتناقضين من غير أن تميل إلى هذا أو ذاك.
اليوم، كلّما نقلّبُ صفحات الكتب القديمة، نرى كلماتك ضوءاً بين الكلمات. وكلما احترنا بين الخير والشرّ، نذهب إلى صمتنا الداخلي العميق لنجد ضالة المؤمن تنام هناك باطمئنان في سكينتنا. يا سيّد الطريق الذي لا ينتهي، أيها الرجل الذي لبس ثياب الحكمة وحمل شعلة الوعي وراح يغرز راياتها في الدروب والمجاهل البعيدة. يكفي أنك زرعت عشبة الانتباه على جانبي الطريق، يكفي أننا اليوم نراك منعكساً في صور رجالات الفلسفة، وفي قصائد الشعراء، وفي نشيد الرعيان حين تُفتحُ لهم ستارة الفجر وتزدهر الحياة بأغنية يوم جديد.