لأكثر من أربع مرت وذات المشهد يتكرر أمامي، وفي كل مرة يزداد سخطي وحنقي واشمئزازي من ترك صاحب المتجر المتخصص في بيع الخضراوات والطعام والفواكه لربع «بطيخة» مكشوفة، وقد تراكم عليها النحل والذباب في حال تعاف النفس السوية رؤيته! بدا المتجر في غاية النظافة، بل وفي شارع راقٍ جداً بإحدى المدن الأوروبية الأكثر جذباً للسياح في العالم. الحقيقة أني حاولت تجنب السير في طريق البقالة، فما بالك بفرصة أن أتبضع شيئاً منها! ولكن الظروف سارت في غير رغبتي، فقد اضطررنا للشراء منه، بعد أن أغلقت كل المحال المتخصصة المحيطة، ولكني لم أدخل المتجر وتسمرت أمام مشهد البطيخة، فيما تراص على الجانب الآخر بطيخ وفواكه مقطوعة ومغطاة بالبلاستيك الشفاف بالكامل، وهنا تجرأت وأخبرت صاحب المحل بكل هدوء وقلت له: يا سيدي هذه البطيخة يجب أن ترمى بعيداً، فهي تنفر منك الزبائن، وهذا المنظر لا يليق بالمحل ولا بالمكان!
أخذ الرجل يشرح لي بكل دماثة، أن هذه البطيخة المكشوفة تحمي باقي بضاعته من النحل والذباب الذي إن لم يجد شيئاً لن يترك بضاعته في سلام، وأن البلاستيك المغطي به باقي فواكهه لن يحميه من إبر النحل وقذارة الذباب التي ستخترقه بكل تأكيد. يقول الرجل: «تركت له ما يأكل لكي يترك لي ما أبيعه»!
نمضي، نحن البشر، في طريقنا وقد جعل كل منا لنفسه مكانة وكأنه يرى منها كل شيء، ويعرف ما لا يعرفه الآخرون، كما يدرك ما لا يدركه الآخرون، حتى وإن امتلكوا كامل حواسهم مثله. بدأت أوقن أن تلك سمة إنسانية كامنة في تكويننا، أي أننا نُخلق بها، بأن نرى الأمور ونحكم مباشرة. وأن أي شخص قد نجا من هذه السمة، إنما هو على النقيض من الإنسانية، لأنه بطبيعة الحال لن يعبأ بأي شيء حوله، لن يبالي ولن يفكر وبالتالي لن يطلق الأحكام! فهو أساساً بسلوكه هذا غير معني بالآخر. ولكني وجدت أن هناك فرصة لتصحيح مسار هذه السمة الكامنة تجاه إطلاق الأحكام، في فسح مجال لسماع الآخر، أي لا نسمح لطبيعتنا بالسيطرة على كامل المشهد، والعمل على إعطاء فرصة للآخر -إن جاز ذلك- قبل أن تعترينا حمى الأحكام القميئة.