نعيش الحداثة في أكبر تجلياتها ومظاهرها الخارجية. في العمران والتكنولوجيا والعوالم الافتراضية والهواتف والصور والتطبيقات المجنونة. لا شيء يوقف هذا الزحف الذي يشكّل العقول وينهش في ذاكرة البشر. لا رقابة تستطيع أن تعزل أو تمنع أو حتى أن تحدد شروطاً لهذا الانفجار المعرفي والبصري، وكأنما على البشرية أن تُحشرُ كلها في جهاز هاتف صغير بحجم اليد، وربما في كبسولة أو شريحة تحت الجلد. والحداثة بمعناها العميق هي الدوران في عاصفة التجديد والبقاء داخلها، وفي معناها الضمني فإن الحداثة هي أن تكون منتمياً إلى الإبداع في جوهره الأصلي وأن تكون معانيك متناغمة مع إيقاع الكون والوجود من حولك. وبالتالي كل مبدع حقيقي، كل خلّاق ومبتكر ومجدد هو صوت للحداثة ولا يمكن أن يتقادم أو يزول مع الزمن. وهذا يعني أن ما نراه من أشكال التطور التكنولوجي ليس إلا مظهراً خارجياً، والرهان يكون على محتواه الداخلي، ومضمون فحواه المعرفية والإبداعية.
لا بأس، هناك مساحة لا تزال موجودة للكلمة المبدعة واللوحة والصورة أيضاً، مقابل المساحات الشاسعة للفراغ الذي نلمسه في الرسائل اليومية للبشر وهم يتباهون بصور الأطعمة والملابس والأكياس وكل ما هو خالٍ من القيم المعرفية السامية. هناك من ينتج الإبداع المعرفي والفني ويضيفه إلى الفضاء الافتراضي، وهناك من ينتج رسالة التخلّف والجهل ويبثها للعقول الفارغة. كأننا هنا في حرب فكرية ضروس ما بين العقل الذي يتصف عادة بالحكمة والفطنة وإيقاظ الدهشة وإنارة الطريق، وبين الجهل الذي يتمرّغ في الفراغ وينتج المزيد من العتمة التي تُعمي القلوب. هناك بالفعل غرقٌ حقيقي لأجيال كاملة أصبحت تتغذى معرفياً من شاشة الهاتف بلا حسبان وكيفما اتفق.
هل نحتاج إلى ابتكار ما يمكن تسميته بـ (الأخلاق الافتراضية)؟ كأن نربي الأبناء والأجيال على مهارات انتقاء السمين من الغث إذا ما اقتحموا دنيا التواصل الاجتماعي؟ هل ندرّبهم على فن اختيار الأصدقاء على التطبيقات الذكية؟ أم نتركهم هكذا عرضةً لمسوقي الإعلانات ونهباً لمروجي الرسائل الموجهة؟ والأهم، هل نحنُ ُننتج في هذا الفضاء الشاسع ما يجعل أصواتنا مرئيةً، أم نكتفي باستقبال المدهش من وراء القارات والبحار البعيدة؟
هناك حداثة في الشكل يعيشها ويلمسها الجميع، ولكن هناك حداثة في الخطاب والتفكير والإنتاج المعرفي علينا أن نعززها في جميع أفعالنا. ذلك لأن القيمة الحقيقية للإنسان تكملُ حين يصبح هو نفسه مصدراً للضوء والطمأنينة والحرية والجمال.