لا أتذكر أنني كنت في جنيف، ولم أعرج على باريس، ولا كنت في باريس، ولم أخطف رجلي إلى جنيف، لديّ شعور بتلك الأخوة القديمة والجديدة بين المدينتين، لأنهما تمثلان الرقي والأناقة الرفيعة في كل الأشياء، ولعل سويسرا هي الجهة الوحيدة في العالم، والتي يقصدها الناس وكل في قلبه هواه، وينشد ليلاه، فالأغنياء يحاذون حدودها الفرنسية، والنخبة يعشقونها شتاء عند حدودها الألمانية، والعشاق والبوهيميون يقصدون حدودها الإيطالية، هناك من يجدون هواهم في «توسكاني»، وهناك أناس وَلَههم في «فلورنسا»، وهناك أناس يقصدونها لسويعات أثناء الدوام الرسمي للمصارف ذات الجدران الصامتة والخزائن الرقمية المتجمدة، أناس موعدهم السنوي مع معارض ساعاتها الراقية، والتي لا تعرف التأخير، ولا تعرف معاصم الفقراء، وهناك أناس يتفتتون من الدلع والنعومة الأرستقراطية، كأن تكون واحدة من تلك النساء المنعمات الناعمات في عاصمة قريبة، وتشتهي أن تتفطر على الخبز السويسري، ومربى التوت البرّي، وعجة البيض مع الأعشاب، والبعض منهن تخطف رجلها سريعاً على موعدها في عيادة التجميل، بعضهن تستهويهن الشيكولاتا السويسرية فتتوقف لساعات بقدر ما تتزود طائرتهن بالوقود، لتتزود هي بعلب الهدايا، رجال يأتونها نهاراً ليناموا، ويسهروا ليلاً إما على طاولة خضراء مخملية أو ليلة حمراء سرمدية، هناك أيضاً من يأتيها لمنظماتها الدولية، ومزاداتها الفنية، ومن يأتيها بقصد الاسترخاء كنقاهة مرضية، ولكن هناك من يأتيها من أجل التظاهر، ورفع اللافتات السياسية، ومن أجل المعارضة «الوطنية»، ودكاكين سويسرا جاهزة لهؤلاء النفر، فلكل قضية هناك لافتاتها المكتوبة بلغات مختلفة، وجميعها مسبقة الصنع، فالذي يريد أن ينغّم على وتر حقوق الإنسان عندهم طلبه، ومن يشكو تعسفاً من حكومة بلاده، ويتحدث عن سجناء سياسيين وأمن سري، فعندهم مبتغاه، ومن يطالب بحرية مدنية وحقوق للفئات المثلية، فاللافتات يمكن أن يحصل عليها بالمجان، فمستودعات الدكاكين مكدسة بها، ومن يريد أن يحصل على مشجعين للتظاهرة التي ينوي القيام بها، فهناك وكالات متخصصة لذلك، بإمكانها أن تزودك بالفريق والكمية والنوعية التي تريد، وكل بسعره، حقوق الإنسان والاضطهاد والمطاردة السياسية، هؤلاء موجودون من الجاليات الفقيرة المختلفة، والتي تسكن الضواحي البعيدة، حتى إن بعضهم مستعد أن يأتي للمظاهرة بـ «كوبون» وجبات غذائية، أما التظاهر من أجل حقوق المرأة، فالتسعيرة غالية، لأنه يتطلب وجوهاً جميلة ملفتة لكاميرات الإعلام، ويتطلب شيئاً من المعرفة، ويتطلب حماسة زائدة، وبعض التوابل كالاستعراض العاري للتسليط الإعلامي، أما التظاهر من أجل البيئة، فتعرفته تكاد تكون مجانية، لأنه يعتمد على التطوع، والإيمان بالمبدأ، وكلمتين «حلوين» من جماعة حزب الخُضر.
سويسرا ليست جنيف، ثمة أماكن هادئة ومسالمة كصمت الكنائس الباردة والخالية، كوداعة الريف والخضرة وسيرورة النهر العجوز، ثمة أماكن تحتل سهول الجبال المكسوة بخيرات الله، وتقول: كأنها قطعة من الجنة، وتتمنى خريف العمر أن يكون بينها، وفيها، وغير بعيد عنها، وخاصة أختها الكبرى باريس التي هناك.. ونكمل