قال رجلٌ حكيمٌ: لو يهلك النسلُ، لو تُكسّرُ عظام الأيادي الممدودة في التسوّل، ولو يفردُ الشيطانُ جناحيه ويقلب عاليها على أسفلها، لن أكتب على ظهور الخيول سوى كلمة: انطلقي. متشبثاً بالحركة التي تمنحُ المعنى استمراره. وأقصدُ هنا فكرة التمرّد على الثبات باعتباره قبراً، ورغبة الانتماء إلى المطلق باعتباره متغيراً لا يُحدُّ بمدّ ولا يؤطّرُ برؤيا. كأن يعتقد الآخرون أن المسافةَ هي الزمن، لكنها مجرد نعلٍ مفقود. وكأن يصطاد رجلٌ الفراشات لكنه يفشل في وضعها داخل القفص. وأنا، بسبب ارتباك هذا الوصف، أنظرُ إلى صورتي وأنا طفل وأصدّقُ أن الحياةَ مجرد ذبذبات، ومجرد نقائض وتجاذبات بين الأبيض والأسود، أو بين الخير والشر. وحين أنظرُ إلى صورتي رجلاً، أسمعُ كلمتي ناقصة، ويصيرُ شاربي مكنسة للصمت، وأفكاري المجنونة عربات جامحة ولكن بلا خيول ولا سروج ولا وصول.
سيكتب رجلٌ حكيمٌ بعد ألف عام: الحريةُ منطاد أفكار شاردة، والعبيدُ المشلولة أرجلهم في إسمنت الخوف، يرمونها بسهامٍ وشتائم وكلمات حسد. لكن الحرية لا تموتُ، بل تصير ذكرى انفصال النار من أصلها في الشر، وذكرى رجال بجّلوا التوازن وجعلوه أرجوحةً للمتعثرين في بئر الخطيئة والندم أو خلاصاً للمترفعين على أوهام التفوّق بسبب عرقٍ أو اعتقادٍ أو نسب. وما بين هذا المعنى وذاك، عليكَ أن تختار. ولا بأس لو سالَ دمٌ كثيرٌ وجرى مثل نهر النبيذ، ولا بأس لو قفز فيه العطشانُ ولم يجد سوى الجفاف وقسوة الضياع في جنّة الفوضى وأروقةِ التيه.
ستقول امرأةٌ بعد ألف عام: كانت القصيدةُ قارب نجاةٍ، وكان الشاعر بحرُها. لكن اليوم، ترمي فتاةٌ خاتم خطوبتها الماسيّ في علبة اليانصيب وتتزوج من عدوّها. ويجلس سربُ شعراء ضاحكين في حانة مهجورة، والناس يظنونهم تماثيل شمع ذائبة. وبالطبع لا هذا يُصدّقُ ولا ذاك. ولا غلبة إلا للذي يزرعُ المفاتيح بدلاً من العشب، للذي يقول للأبواب تباً عليكِ انفتحي. ويقولُ للحياةِ: أنتِ شهوتي للخلود، والخلودُ مجرد عاهة فان.
اتبع الحكيم إذن. اصغ إلى صوت امرأته وفتّش عنه وعنها في مكنون قلبك. منسيون من الحواشي والرتوش سيؤيدون اسمكَ. متضعضعون خَلخلَ الزمن أضلاعهم لأنهم سكتوا، سينطقون مثلك بكلمة (لا) ولكن لن يسمعهم أحد. والحبُّ الذي فمه تغريد طائرٍ حر، هو وحده الصوت الذي يحق لك أن تناجيه. وأن تطاردَ مصدره من أين يأتي؟ وإلى أين يؤوب؟