في سنوات الدراسة الجامعية، في أوائل الثمانينيات، استغللت إجازة الصيف، وقلت: لأذهب إلى اليمن وجيبوتي وإثيوبيا وتنزانيا ومنها إلى زنجبار، هكذا وحيداً دون تخطيط، ودون رفيق، ولم تكن أيامها سهلة الاتصالات والمواصلات وخدمات الشبكة العنكبوتية، ومزايا الخدمات العامة كسفر اليوم، لكنني اعتبرتها تجربة جديرة بأن يقوم بها الإنسان مرة، فإن فاتت فرصتها، فلن تعود ثانية، كان هدفي اكتشاف الإنسان هناك، ومعرفة مناطق وعادات تلك البلدان التي ما زالت بكراً وبريئة، يومها كنت جاداً أكثر من اللازم، وكان القلب بعافية الشباب، وحب المغامرة، وخفة الحركة، وروح الكشافة والجوالة الذين يختصرون رحلاتهم في حقيبة سفر واحدة.
في تلك الرحلة غير المخططة تعرفت على مدن كصنعاء وتعز والحديدة، ارتقيت إلى مرتفعات إب، دخلت بيوت اليمن وعرفتها من الداخل بطقوس الكرم والطيبة وتفاصيل اليوم الطويل، والاحتفاء غير العادي بشخص لا يعرفونه إلا من لغته، وما يحمله للناس من محبة وشغف بالمعرفة لتاريخ الإنسان والمكان، كانت ثمة دهشة تأخذك ولا تريد أن ترجع، مررت بشجرة الغريب، وعرفت شجرة البن، وشجرة القات، زرت سوق الملح، وأسواق صعدة، مشطت الساحل حتى تخوم عدن، كانت رحلة تسير أيامها والساعات وفق الفرح الذي يقودني نحو فضاءات من التاريخ وغبرة الحضارات، وتلك الأصالة المتجسدة في كل شيء، لقد تركت اليمن، وفي نفسي شيء من اليمن.
كانت جيبوتي، بأشيائها البدائية والبسيطة، حداً قريب العهد بالإنسان الذي ترك الكهف نحو الغاب الأخضر، وكأنها فصلت عن حركة العالم أو رماها البحر لليابسة من غير وداع، كان كل مكان فيها يجبرك على أن تقف عنده لتتذكر العفوية والفطرة، والبداءة حين كانت الأشياء قريبة من صلصال الطين والماء، وكان الإنسان لا يعرف غير الشكر لأرض تقله، وسماء تظله قبل أن تهجم عليه الأمور ومستحدثاتها، وتحول كل تفاصيله الرعوية للمعقد والمتعب، وتذهب بضحكته التي من القلب. لم توقفني الأشياء، وحده الإنسان كان حاضراً منذ الأزل، ومنذ شطر البحر تلك اليابسة.
كانت إثيوبيا بذلك الإرث التاريخي الثقيل، وعقود من تحولات الزمن، وإذا بكل شيء له جذر في الأرض، وأصالة يتناقلها الإنسان من جيل إلى جيل، طقوس القهوة الحبشية، ومتعة الأكلات الساخنة والحرّاقة، والملفوفة بورق أشجار الغاب، وطيبة الإنسان الذي ما زال يذكرك بلونه المصبوغ به منذ فجر الحضارة الأولى، كانت الحبشة رحلة في التاريخ، ومع التاريخ في كل شيء، والكل يقف ولو لحظة معك، للتحية أو لتقديم خدمة أو استضافة تخجل كلماتك، حتى عازف البيانو في فندق «هليتون أديس أبابا»، يذكرك بذلك النوع الخاص من عازفي الجاز الأميركيين السود الذين تشعر أن وراء كل واحد منهم قصة عميقة عن الجذور والأجداد، ويريد أن يسردها على أحفاده، إن جاء الأحفاد قبل أن تضيع من ذاكرته. ونكمل..