هناك أمنيات كثيرة يزخر بها الرأس الصغير، بعضها تكبر معه، بعضها يكبر هو عليها، بعضها تتخلى عنه أو يتخلى عنها، بعضها تودعه في منتصف الطريق أو يودعها، وبعضها الآخر يسحبها العمر معه، لكن كثيرة هي الأمنيات التي لم تكبر، وبقيت تحجل في الرأس ببراءتها:
• رأيت إعلانات «البحث عن النكهة» وخيولاً تتسابق في البريّة ومناظر طبيعية خلاّبة.. وناراً دافئة ذهبية تتلألأ في الليل البهيم، وشفة شاي مع نَفَس سيجارة طويل من «الكاوبوي»، بعد أن أشعلها بكعب حذائه الجلدي الطويل، فتمنيت أن أدخنها.. ولمّا دار الرأس وأحمرّ الوجه، وظهرت الكحة.. قرّرت فقط أن أكتفي بالتجربة، وأطفئ تلك الأمنية.
• رأيت أفلاماً هندية رومانسية وبطلاً يبدل ملابسه كل ساعة، وممثلات هنديات جميلات، ومطراً وخضرة تريح النظر، وأن الحياة جميلة بأغانيها ورقصها، فتمنيت أن أصبح ممثلاً.. ذهبت إلى الهند، ولمّا لم أجد ما رأيته في أفلامها، حيث لا بطل يطير، ولا هنديات الشارع كالممثلات، قررت أن أتخلى عن هذه الأمنية والبقاء على متعة الغرفة المظلمة التي ندخلها بتذكرة لا تتعدى دراهم معدودة، جالبة هي لنا الأحلام البعيدة.
• تمنيت يوماً أن أبني عضلات وأرفع الأثقال، ولو على شكل «قراطي إسمنتية»، وحين كثرت أحمال الحياة وأثقال الدنيا.. تفرغت لحملها، وتركت الحلم يسافر وحده خفيفاً.
• تمنيت أن أكون مدرساً للتاريخ، وحين عرفت التاريخ غير المكتوب، والتاريخ المسكوت عنه، والتاريخ الذي دونه المنتصر فقط، قررت أن أترك هذا الحلم، ولا أسهم في تثبيت هذا التاريخ في عقول الصغار.. ولأتركهم وحدهم لتاريخهم القديم يقرؤونه، ولتاريخهم الجديد يكتبونه.
• تمنيت أن أشتري سيارة حمراء رياضية قبل حصولي على الرخصة، لكن بعد عدة محاولات غير ناجحة، وسواقة لا تعطي شهادة حتى لقيادة سيارة أجرة نصف عمر.. تضاءلت هذه الأمنية، وظللت أنتظر السيارة الحمراء الرياضية حتى بلغت الأربعين، ساعتها تخلت هي عني، وتخليت أنا عن حلم الوصول قبل الجميع إلى خط النهاية.
• تمنيت أن أسافر إلى بلدان العالم وحين وصلت إلى لندن في عمر متقدم وشبابي قليلاً.. ورأيت لندن ليست مدينة «مقرطسة» كما كانت في حلم الصغير، أيقنت أن السفر الحقيقي ليس هو عطلات العرب في المرابع العربية والغربية.. وأن فوائده أكثر من خمس، فشكرت لندن لأنها علمتني وجهها الآخر، لا وجهها الفندقي فقط.
• تمنيت حين سجلت أهدافاً في كرة القدم على ذلك الملعب الرملي، وضد فريق مهلهل بعض الشيء، وكانت أهدافاً مشكوكاً في بعضها، أن أصبح لاعباً مشهوراً، لكن اللعب الجديد والملاعب العشبية بأنوارها الكاشفة والأحذية «البراغي» والخطط وتبادل المراكز، وانكسار الرِجْل التي أجيد التصويب بها، جعلتني أتخلى عن تلك الأمنية، وأرضى بالمشاهدة فقط من المدرجات على لعب مختلف.
• تمنيت في صغري أن أكون طياراً وحين وضعت النظارة على عيني في الصف الأول الإعدادي تضاءل هذا الحلم، وتضاءلت الأمور في عيني، وتمنيت كل شيء إلا أن أكون محاسباً بنظارة مقعرة أو بدرجة 5.5 «سالب».. وألّا أُعدم من حلم الطيران، ولو كان بجناح وحيد، وبعيد نحو فضاءات الحياة الجميلة، الملونة.
• تمنيت أن أصبح محامياً يدافع عن الناس من ظلم الناس، ولما أيقنت أن الظلم قديم، وأن اللسان لا يقوى إلا على الكلام، وأن وسائل الدفاع أضعف من وسائل الهجوم، قررت أن أتعلق بأمنية وحيدة، ألّا أحاول ظلم الآخرين، ولا أساعد الآخرين على الظلم.. وأن أجمل الأيام هي تلك التي تبدأها دوماً بالخير.