تبدو الشعرية العربية الجديدة اليوم وكأنها متوقفة في مكانها. والقصيدة التي كانت تكتبُ في الثمانينيات من القرن الماضي، ما تزال هي نفسها التي تُكتب اليوم وبغزارة وتكرار وتشابه ملحوظ لدى الأجيال الجديدة. وبعد تجارب جيل التجديد الأول بداية من السياب وأدونيس ومجلة شعر في نهاية خمسينيات القرن الماضي، ثم الجيل الثاني الذي برز من بعدهم في منتصف الستينيات وجدّد في موضوعات القصيدة وشكلها وبنيتها الروحية، جاء الجيل الثالث في الثمانينيات ليذهب بها بعيداً في التجريب والمغامرة المفتوحة بلا نهاية وبلا حدود وبلا قيود. وكان يفترض أن تكون النتيجة انفتاحاً أكبرَ على ابتكار البنى والموضوعات والأشكال، لكن ما حدث أن هذه القصيدة الجديدة أصبحت تتناسخُ وكأنها وقعت في غرفة مليئة بالمرايا حتى اختلط الأصل بالصورة والصوت بالصدى. وفيما تتوقف معظم الدراسات النقدية على الأسماء التي برزت من الأجيال الأولى، لا نجد دراسات معمقة تقرأ في التجارب الجديدة وتفكك بناها وترصد مكامن الجمال والإبداع فيها.
لكن حقيقة هذا الأمر تبدو معكوسة، ذلك لأن الشعرية العربية اليوم تفيضُ بانفتاحها على خلق البنى المبتكرة وغير المطروقة، هناك مثلاً تجارب للعشرات وربما المئات من الذين جرّبوا إنتاج قصائد «هايكو» بالطريقة اليابانية وبالطريقة العربية أيضاً وقدموها في مجموعات شعرية كثيرة. هذه واحدة من الظواهر التي لم تُرصد، ويضاف إليها بالطبع ظواهر أخرى كثيرة من بينها القصائد الشذرية التي تتألف من سطر أو سطرين على الأغلب، وقصائد الومضة الخاطفة وقصائد السرد ونصوص أخرى تدمج كل هذه الأشكال والأساليب وتنوّع في معالجاتها ومواضيعها من التجريد اللغوي المحض إلى التعبيرية المباشرة. وهناك نصوص تخلط بين الإيقاع والنثر، ونصوص نثرية شعرية ملحمية أيضاً. كل هذا يدلّ على أن الشعر العربي يخوض مغامرته بحريّة أكبر بعد أن تخلّص من أحمال الكلاسيكية اللغوية والموضوعية والبلاغية. وما يشاعُ عن تراجع الشعر لمصلحة الرواية يبدو طبيعياً، إذ أن هذا التجريب والتأسيس للنصوص الجديدة لا بد وأن يصطدم بالذائقة التقليدية التي تحكم توجهات المؤسسات وأيضاً العامة. ولذلك لا تتجرأ هذه المؤسسات على الخوض في تعزيز الحركة الجديدة في الشعر، بينما تتبارى للاحتفاء بالرواية كونها نوعاً من الأدب المتماهي مع الذائقة العامة ويخضعُ بالطبع لسلطتها، فيما الشعر يواصل هدم البنى التقليدية والنمطية في التفكير والرؤى والأحلام أيضاً.