حتى لو تشافت وتعافت المجتمعات البشرية من ذلك الوباء الذي حلّ بها أو بمستوطناتها مؤخراً، أعتقد أن هناك أموراً قد تتغير لدى الكثير من الناس، وأن هناك ثوابت في هذه المجتمعات قد تتزحزح من مكانها، إما أن تحلّ مكانها بدائل تسد ذاك الفراغ أو يكتشف الإنسان طريقة تعويضية ومبتكرة عنها، وأول هذه الثوابت طريقة السلام والتحية عند الشعوب المختلفة، فالفرنسيون الذين كانوا يصرّون على القبلات الثلاث على الخدود، خاصة مع الجنس الناعم، كطريقة يومية في حياتهم، عند اللقاء وعند الوداع، ربما يتناقص العدد، وربما يكتفون بالسلام الناشف، وقبلات الهواء التي لا تغني ولا تسمن من جوع المحبة، وربما يعودون لطريقة السلام في مجتمعاتهم الارستقراطية في القرون الماضية بتقبيل أيدي النساء والمهمين الذين كانوا يلبسون قفازات مخملية معطرة، أما نحن والشعب النيوزيلاندي، فاعتقد جازماً أن «الموايَهة بالخشوم» ستختفي تدريجياً نحو شيّء أكثر بساطة، خاصة وأن سبب الاختفاء ليس «كوفيد»، ولكن ظروف فرض الكمامة على الأنف التي ربما تكون عائقاً نحو تحقيق الدفء من السلام، والغاية من التعبير عن المحبة، أما الشعوب التي تحب التلاحم بالأحضان وبشدة وقوة حتى يكاد أن يتفشع صدر الواحد منهم، وتسمع صرير عظام قفصه الصدري، كما يحدث عند الشعب الأفغاني المحارب على الدوام، هؤلاء الأفغان الشجعان قد يتخلون عن تلك العادة، ليس بسبب «كوفيد -19» الذي بالتأكيد لا يعترفون به، ولكن من كثرة الحروب المستمرة، والاقتتال بين الإخوان الأفغان حتى لم يعد هناك صديق غير عدو تريد أن تبثه صدّق حبك، وحميم علاقتك، حتى الأتراك الذين يسلمون على بعضهم بحك الرؤوس أو قرون الرأس، في شيء يشبه المناطحة، فاعتقد أنها ستختفي، خاصة إذا ماتم قبول تركيا في مقبل الأيام في الاتحاد الأوروبي، منتصرة لعلمانيتها وتفرنجها التي أرادها «أتاتورك» الزعيم القومي لها، متخلية عن كل إرثها السلطاني القديم، لا أحد سيسلم من التغيير غير الهنود وبعض الشعوب الآسيوية في الشرق الأقصى، الهنود «نمستيه» بالأيدي من بعيد، ومثل ما يسلمون على «بكوان» آلهة من آلهاتهم، يسلمون على القريب والغريب، فقط الأم ينزلون للمس قدميها، وكذلك اليابانيون، هي كم من ركعة مثل صلاة المسافر، وكفى الله الشعب الياباني أمور التلاحم الجسدي، بقي الصينيون الذين هم أس هذا البلاء، هؤلاء لا نعرف كيف يسلمون على بعض؟ وكيف يمكن أن يشتاقوا لبعض؟ ولا ندري هل يختلف سلام اللقاء عن سلام الوداع؟ حتى إن الصينية تراهن الكثيرين إن كانوا يعرفون تعابير وجهها حين تكون سعيدة أم حزينة، لأنه ليس ثَمّ تعبير واضح يمكن أن تدركه على ذلك الوجه الأملس، بعضهم يقول إن السلام والتحية بعد الثورة الثقافية لـ «ماو» عدوهما من رفاهية البرجوازية، وعادة رأسمالية بغيضة، ما أحد بيتضرر من تداعيات هذه الجائحة مثل الفلبينيين الذين يحبون التلاحم، ولا يكتفون بالتحية من بعيد، وقول: «كمستكا»!