هنا في زمن وقدره عشرون دقيقة، تقطعها من منزلك في العاصمة، وحتى متنزه الوثبة، في هذه الرقعة الجغرافية الوادعة، تطوقها جدران بيوت هجعت هنا منذ سنوات طويلة، وهي ترسم صورة الإنسان الذي خب خبيبه، وصب صبيبه، ثم استراح على قارعة زمن مفعم بألوان الدهشة في بلد لم تنكث عهدها وهي تسير عبر الزمن، مبللة بقطرات الندى، في تلك الرمال المبهرة بوميضها، ورضيضها، وخضيضها.
هنا في هذا المكان من العالم، تجد الطير يخفق بأجنحة النخوة الطبيعية، وكأنها أشرعة من قماشة الوله، هنا تجد الأعشاش تحملق في الوجود، بأنفة الكائنات الشفيفة، هنا الناس عند مطلع ثمرات السدر، وأزهار الأكاسيا، تبدو السماء مثل قبعة زرقاء، تحف الوجنات، وتتجلى نسقاً كونياً يدحض التعب، ويفيض بسحابات أشبه بقطنة الجروح الحمراء وفي جلسة حميمية، بين أعطاف تمادت في الثناء على طبيعة الأشياء الجميلة، يلتئم شمل عائلات، بأطفالها، ونسائها، ورجالها، وكل يسكن جنة الواقع، ويتملى شؤون الشجر، كما يستفسر عن سر هذا العشق ما بين الشجرة، والنسيم، حيث الوريقات تبدو وكأنها شراشف تتدلى منها خيوط الغفران، والحلم الوجودي يغدق الأفئدة بمساحة أوسع من الأفق، ويمنحها بياض المرحلة، وحبور الناس الذين جاؤوا لكي يغنوا معاً ويرسموا صورة الاحتفال البهيج الذي يملأ وجنات العشب، ويلون أغصان الشجر بلآلئ الثمار اليانعة.
متنزه الوثبة، المكان الذي تهجع فيه الحمامات، وتجعل من بنيانه نوافذ للتطلع، والنظر إلى الحياة من خلال عيون أقرب إلى مسام الجسد.
عندما تقترب من هذا المكان، تشعر بأن الإمارات أصبحت اليوم خضراء، فيحاء، منقحة كأنها العبارة المخملية، مندمجة مع الوجود في صيغة جملة شعرية، مكسوة بأجمل الصور البلاغية، وهي كذلك تقودك إلى عوالم مبهرة، وتسافر بك عبر منمنمات في التراب، وهي التمازج ما بين التراب الذهبي، ولون الشجر، هو ذلك التناغم السيمفوني الرهيب، هو ذلك الانسجام المعرفي لطبيعة خلابة، جذابة، بحيث أضحت موئلاً للطير والعيون التي في طرفها حور، وصارت في الحياة أيقونة، وملحمة، صارت في وعي الناس، المسافة ما بين الشريان والوريد، وهي في المجمل منطقة في وجيب القلب.
زرت هذا المتنزه، ولأول مرة تطأ قدماي ذلك المكان رغم قربه من مثوى أحلامي، وقد شعرت بأنني غيبت زمناً من عمري وأنا أجهل الزيارة لمثل هذا المتنزه.
والشعور في الزيارة الأولى له نكهة القهوة العربية، في رشفتها الأولى، إنها رشفة المذاق الأول، والدوار الأول، واليقظة الأولى.