رمضان هو شهر التأمل وهو النهار الذي يتخلص فيه الإنسان من نزعات الجسد ليتجه نحو الروح، تلك المكون الأساسي لعلاقة الإنسان بالوجود، وطالما الوجود مفعم بالأسرار وكذلك بالمدهشات، فإنه لا بد وأن تقع النفس البشرية في حلبة الصراع ما بين الصمت والضجيج، ولكن في حالة الصوم تختفي أمواج الضجيج، ويتلاشى زبدها، وتنتهي إلى حالة سكون، يفضي إلى التأمل.
عندما يصل الصائم إلى ذروة مراحل التأمل فإنه يكون قد تخلص من دخان كثيف، ولفظ غبارا بكميات هائلة، واستغنى عن نفايات كثيرة علقت بالذهن، ولما جاء الصوم، أصبح الإنسان في غنى عن كثير من مدخرات الأمس، لأنها لا تفيده في شيء، وهو قد وصل إلى أقصى حالات الخواء الداخلي، وصارت صفحات الكتاب بيضاء من غير سوء، والكلمات واضحة، والحروف جلية، ولا عراقيل كأداء تقف أمام وصول الإنسان إلى صفائه الداخلي، ولا عقبات تحول دون التلاقي بين الإنسان ونفسه، التي سلبت زوراً وبهتاناً جراء الانغماس في أتون أوحال الدنيا، وأثر غوص الإنسان في بحيرات ضحلة، تفوح منها روائح نتنة، لأنها أغلقت، ومنعت الأحياء الحيوانية من الخروج منها إلى المحيط، فنفقت هذه الكائنات، وتعفنت، وتحللت، وضاعت في نسيج الماء الآسن.
في حالة الصوم تحدث متغيرات، تفرغ العقل من شغل التعامل مع الغذاء ويبدو صاحياً، صحيحاً، صحياً، لا تغشيه غاشية، الأمر الذي يجعله ساحة خضراء تنمو فيها أعشاب التأمل، والتفكر فيما يحدث في الوجود، كما تؤدي هذه التفاعلات إلى الإحساس الفوري، بأهمية الاندماج بهذا الكون الفسيح لأنه في الصوم لا يبدو ما يشغل الإنسان عن محيطه الكوني، ولا شيء يحول بينه والآخر في هذا الكون، بمعنى أنه في حالة الصوم يحدث الاتحاد الأعظم بين مخلوقات الكون، ومنها هو هذا الإنسان الذي توقف مسعاه في الحياة عند التواصل مع الكون مجرداً من غوغائية البحث عن طعام أو ما يشتري به الطعام. لذلك نجد أن كل «العباد» يذهبون بعيداً عن مواطن اللهو، والانشغالات الأخرى، ويعكفون على التواصل مع الفراغ، لأنهم في الفراغ يجدون ذاتهم المستلبة، وفي الخواء يعثرون على روحهم، الأمر الذي يسهل على الإنسان العيش في سلام مع النفس أولاً، مع الآخر الإنساني، ثم مع الآخر الكوني.
فالصيام ليس جوعاً بقدر ما هو إشباع للروح التي فقدت الكثير من محتواها خلال أيام السنة قبل الصوم.