لابد لبعض الشعوب الضاربة عميقاً في جذور التاريخ وقِدم الحضارة أن تهز العالم بشيء جليل ومهيب بين فترة وأخرى، وأن توقظ نهار العالم فجأة على حدث يذكره بمجريات التاريخ وجلبة أحداثه، وأن المدن التي تعاقبت عليها حقب وملوك وانتصارات وغزوات، وبقيت صامدة لليوم، قادرة أن تخرج من عثراتها بفضل الفلاح الفصيح، والبنّاء الصابر، والعالم المجدد، والشاعر المجنون بالوطن، والفنان المبدع، وإن اعتراها شيء من نكبات الزمن، وتقلبات المحن، فإنها تنهض من رمادها، مثلما تخرج من هزائمها أقوى وأكبر، مصر كانت في ذلك الكوكب الملكي الفرعوني الجليل تكاد تقول هذا للعالم، فقط لكيلا ينسى، وليتذكر أن بلداً يحنو عليها نهر عظيم، ويحرسها أعز جند الأرض، هي حيّة على الدوام، وهي رقم كان صعباً، وسيظل صعباً على الدوام.
لا أدري لمَ شعر الوطن العربي أن أمه مصر «بهية البهية» كانت بالأمس أجمل ملكات الموكب الفرعوني الزاهي، وأن طرحتها أو تاج غارها هي التي تزينهما، وهي من تطرح الخير والبركة فيهما بفضل تعرق جبينها الغالي، وأن مصر حين تقرر، وحين تصمم، وحين تريد، فهي قادرة على الإبهار والإعجاب، وإدهاش العالم، كان عملاً متكاملاً فنياً وتاريخياً وحضارياً، منذ زمن بعيد لم نر عملاً بمثل تلك المهابة يمكن أن نعتد به كعرب، لا نختلف عليه، ولا نريد أن نختلف عليه، ولا نسمح لأحد منا أن يختلف عليه، لأنه يشرفنا أمام العالم، ويجعل منا أمثولة للفخر والاعتداد ورفع الرأس شرفاً وعزة وكرامة.
ما أتمناه دائماً على مصر أن ترعى مؤسساتها الوطنية للسياحة وخاصة المتاحف، وتجعلها صنو المتاحف العالمية والأوروبية بالذات، لأن لا متحف في العالم يمكن أن يخسر في الظروف العادية، فأبعدوا عن متاحف مصر مؤسسات القطاع العام، وذلك الترهل الوظيفي، والتكدس النفعي، وارتقوا بها وبما تحتوي، لأن مصر وما فيها أكبر وأعظم من أي متحف عالمي آخر، والكثير يحسدها على موجوداتها ومكتشفاتها، لا تسمحوا لأدلاء السياحة الهرمية أن يكونوا ضمن نطاق المتاحف الجديدة، لا تسمحوا للمتطفلين على مهنة المرشدين السياحيين أن يحوموا حول المتاحف المصرية الجديدة، ارتقوا بها نحو المهنية والاحترافية العالمية، اجعلوها متاحة رقمياً، وبلغات العالم، واجعلوها أقرب إلى الآخر، هي توصله لا هو يتواصل معها، مصر جديرة بمتحف عالمي يرقى لمتحف «اللوفر، أو متحف كوزموبوليتان، أو متحف لندن أو متحف الأرميتاج»، وغيرها من المتاحف العالمية الراقية، والمزدهرة دوماً برفعتها، وجلال حضورها العالمي، لا تجعلوها تَقْدَم، وتتقادم حتى تهرم من الداخل، ويحلّ بها العفن، وعدم الاهتمام والبعد عن النظافة اليومية، فالذي تملكه مصر غال، ولا يمكن أن يفرط به من أجل أفراد منتفعين، وأناس وقتيين، لا يمكن أن نتراخى عن حماية هذا الموكب الملكي الفرعوني الجليل والمهيب الذي أبهر العالم كله، وشعرنا بذلك الفخر الذي يقول للنفس إن الغد أجمل، وإن التاريخ ينصف، وإن الفرح العربي يمكن أن نخلقه إذا ما أردنا وصممنا، وأتبعنا القول العمل.