الحقيقة ملكٌ للجميع، غبارٌ كثيرٌ تم ذرّه في الكتب والقواميس القديمة حتى اختلط المعنى بالمعنى، وحتى اختفت كلماتٌ بعينها وظهر مكانها نقيضها. الذهاب إلى تفسير القول بمعناه الظاهر، لا يقود إلى الحقيقة دائماً. والحفر عميقاً لتفسير القول بمعناه الباطن، لا يؤدي إلى القبض على القصد أو الجوهر الحقيقي. وكأنما على المنقّب في جذور الكلمات وأصلها، أن يبتكر لنفسه طريقةً هي بين بين. لكن، ولأن دلالة الكلمة قد تختلف حسب مكان وجودها في السياق، فإن تأويل القول سيظل حمالاً لأوجه عدّة، وهو أمرٌ علينا أن نعتاد وجوده في كل ما نقرأ، وأن نُقرّ بأن الاختلاف هو الأصل، وأن ننظر إلى الحقيقة باعتبارها ناقصةً دائماً، وستظل هكذا للأبد.
القبول بالاختلاف، هو ما يضمن لكل أمة استمرارها وتجددها. حيث لا يحق لأحد أن يدّعي امتلاك الحقيقة وحده، وبالتالي يذهب إلى إلغاء الآخر ونفيه والقضاء عليه. يحدث هذا في المجتمعات المتزمّتة التي تحكمها الإيديولوجيا بأشكالها كافة، حيث تظهر جماعات تدّعي ملكيتها وحدها للمعرفة والحقيقة، وتبيحُ لنفسها العمل على منع أي مظهرٍ للاختلاف في الفكر والفعل والقول والعمل. وإذا ما انتشت مثل هذه الجماعات فإنها تأكل مجتمعها من الداخل، وسرعان ما تجدها تقوم بتنظيم نفسها لتعمل أولاً على إيذاء الفكر المتنوّر وتحقيره وتكفيره، ثم تذهب تالياً إلى الدعوة إلى التقوقع لأنها لا تملك القدرة على مواجهة الآخر المختلف، وبالتالي العالم كله. وتكون النتيجة التراجع للخلف والإيمان بالماضي، وعدم رؤية الحاضر وعدم القدرة على التخطيط للمستقبل.
على العكس من هذه الجماعات، هناك من يقبل أن يغيّر قناعاته بالحجّة والمنطق. وهناك من يذهب عميقاً لمساءلة الماضي وقراءة التاريخ وكشف عيوبه وخفاياه. فلا شيء مقدّساً، عنده، إلا ما يقبله المنطق والعقل. ومثل هؤلاء هم الذين يبنون المجتمعات الجديدة، ويصافحون الآخر كشريكٍ في تأسيس المستقبل بعيداً عن اختلافات الماضي. والدول التي تكثر فيها هذه الفئة ويتاح لها العمل والقول والفعل بحرية تامة، تصير بلا شكٍ منارة إشعاعٍ فكري وحضاري. ومن علاماتها ازدهار الفنون والآداب، وارتفاع قيم التسامح والتعايش والصداقة بين جميع فئات المجتمع مهما اختلفوا في التوجه والاعتقاد والعرق واللسان.
لن يمتلك أحدٌ الحقيقة، ولكن يمكن حين نقبل بتعايشنا رغم اختلافنا، أن نمسك بأطرافها لنكتشف أنها ملكٌ للجميع. فهل يستوعب أصحاب العقول المغلقة هذه الفكرة البسيطة؟!