إلى كل الذين يعشقون الزراعة مثلي وتأسرهم روعة النباتات الكبيرة، وهي مزروعة في أصص صغيرة، ويتساءلون في دهشة كيف تنمو هذه النباتات الكبيرة، وهي في أصص صغيرة؟، أقول لهم إن الجواب يكمن في فن (البنساي) لأن كل من يحب الزراعة لا بد له أن يتعلم هذا الفن الذي يعود تاريخه إلى ما قبل ستة آلاف عام، وقد ابتكره الصينيون، ثم انتقل إلى اليابان، وأصل الكلمة تتكون من كلمتين (بون-bon)، وتعني «صحن» أو «أصيص» و(ساي-sai)، وتعني شجرة، أي أنك تستطيع أن تربي شجرة ضخمة في صحن صغير.. كيف يمكن ذلك؟، ببساطة مدهشة، فكلما نمت الشجرة ترفعها من الوعاء وتقطع نصف جذورها السفلية، وتشذب غصونها وتعيدها إلى الوعاء، مضيفاً إليها تربة جديدة غنية بالعناصر المغذية وتسقيها برذاذ الماء، هكذا ببساطة متناهية تستطيع أن تملأ المنزل بنباتات لا تأخذ أوعيتها حيزاً كبيراً، لكن هذه المعرفة التي تعلمتها وطبقتها على نباتاتي التي تملأ بيتي الصغير دفعتني إلى التساؤل: هل نستطيع تطبيق هذا الفن علينا نحن البشر؟، أي لو قطعنا نصف جذورنا الشائخة ونصف أغصاننا اليابسة واستبدلنا ترابنا القاحل بتربة أكثر خصوبة وغنى بعناصر التجدد وروينا نبض أرواحنا بعذوبة المحبة، هل سنتجدد ونزدهر ونخضر ونتفرع ونزهر ونثمر؟، هل سنصير أكثر نضارة وأقوى جذعاً، وتشب لنا جذور جديدة كشجرة بين يدي مزارع يتقن فن «البنساي»؟.
وإذا لم نكن شجراً فماذا يمكن أن نكون سوى كائنات تعتقت جذورها واهترأت، وما زالت تتشبث بتراب أقحل وذاكرة تراكم عليها غبار الأوبئة والانكسارات، وتوغل في جذوعها اليباس ونخرتها الحروب حتى لم تعد أغصانها تتفرع وتزهر بغير ما نشأت عليه.
ولأننا لسنا شجراً بالمفهوم العلمي والواقعي، يمكننا أن نستخدم المصطلح رمزياً فيما يخص الإنسان، فإذا ما اعتبرنا الإنسان شجرة، ووعاؤه هي البيئة والثقافة التي تكون شخصيته وسلوكه وأفكاره ومواقفه من العالم وما يحيط به، فإننا بفن «البنساي» نستطيع أن نجتث نصف جذوره الشائخة وثلاثة أرباع تربته التي أقحلتها ثقافة العنف وتعذر نمو فروع خضراء له، لنعيد تشكيله وتجديد ثقافته وشخصيته وفكره ليكون أكثر حداثة ومعاصرة، ونجعل حياتنا أكثر سلاماً وأعمق إبداعاً وخصباً!، ولأني أعدت زراعة نباتاتي وتكويني الشخصي بـ«فن البنساي»، فقد تخلصت من تربتها وتربتي القاحلة، ومن تفرعها العشوائي وثقافتي العشوائية، ومن جذورها وجذوري الشائخة، فإننا ننمو معاً أكثر تجدداً وخصباً وإثماراً!.