منذ الأزل والموج في صميم حركة البحار والمحيطات، يتهادى ويهيج ويسكن؛ إليه توجهت العدسات لترصد حركته في تبدلاتها وتشكلاتها مع الرياح والعواصف والأمطار، إليه حدقت عيون الرسام لتخط بالألوان حالاته، ليرسم تلك الخطوط المائلة والمتقاطعة بضربات الفرشاة وبرودة وحرارة الأبيض والأزرق على القماش، ليسكن المشهد على الجدار.
العاشقان، بكل إيقاع الحب في قلبيهما جلسا قبالة البحر ينصتان إلى تلك اللغة التي يرسلها صوت الموج المتكسر على الشاطئ؛ ينصتان إلى اللحن الساحر القادم من المدى الشاسع للبحر، حيث حروف الحب الكبرى تُرسل من الأزمان المتوالية لحكاية الموج.
يقف القبطان أيضاً وسط السفينة يراقب الهيجان الرهيب للموج، وتمايل سفينته وخوف البحارة من الرعب الذي تحدثه الأمواج المتلاطمة، وهي تعبث بروحه وروح بحارته وتهز بشدة أشرعة السفينة، حيث النهاية واحدة لا ثاني لها، أما الهلاك ففي الأعماق أو السلام والإبحار على سطح الماء الساكن.
يسرد الراوي حكايات أرسلها الموج، حكايات فيها من الفرح الكثير ومن الحزن الكثير، حكايات عن الغضب، عن أصوات المدافع والقتل والاعتداء، عن الكفاح والصبر، عن النشيد والغناء والرقص، عن الأحلام الكثيرة وهي تُبعثر في فراغ الزمن والاغتراب، عن السلامات التي لم تصل مع تباشير النوارس عن الحب الذي غرق.
وفي بحر الحياة تقلبات كثيرة، أيضاً، هي بين سكون وهياج، حركة بشرية يسيرها العقل بتموجات التفكير، فتتلاطم الرؤى في موج المنطق أحياناً، حيث يسير موجها نحو الأهداف المؤملة مباشرة لتتحقق الأمنيات على سطح الأيام، من دون أن تنكسر فتزهر الصباحات بكل ألوان الورد؛ ويحدث أن تكون الرؤى شاحبة في موج اللامعقول، حيث تسير الأهداف عبر رياح الأهواء، فتتساقط الثمار قبل نضوجها، ينكفئ الشغف، يخفت الصوت، وتتدحرج جمرة الجمال على الماء.
في بحر الحياة أيضاً، تسير البشرية إلى العلا وتهبط وتتوه في الموج الهائج وتتكسر الطرق المعبدة، فلا تعود العدسة تلتقط المشهد، تجف ريشة الرسام، يفترق العاشقين، ويسكت الراوي، ويتوه المنطق واللامعقول، وتصير الخطوط شاحبة لا تشبه الموج في مصداقيته مع رقصة الطبيعة الكبرى.