«تحدث حتى أراك».. لا أدري ما حقيقة الواقعة التي جعلت «سقراط» يطلق هذه العبارة، فأصبحت -للأسف- حجة على فراغ البعض ممن لا نسمع لهم صوتاً حولنا، ودليلاً على قصورهم وجهلهم، بينما -وهذا ما أدركته من واقع التجربة- أن بعضاً من أولئك الصامتين إنما يملكون من المعرفة والحكمة أضعاف ما يملكها الذين يتصدرون المنصات المنتشرة حولنا، ولكنهم ارتأوا أن يبقوا على الجهة المقابلة، مستمعين ومراقبين، سواء كانوا مستمتعين أو متحسرين على ما يدور أمامهم، ولكنهم في كل الأحوال كانوا على الجهة المقابلة منصتين بهدوء!
 لقد جاء مفهومنا عن أولئك الذين لا نراهم بسبب غلبة الثقافة البصرية على مدركاتنا، فأصبحنا لا نعترف إلا بمن نراه وما يتصدر المشهد أمامنا، وهذا ما جعلنا أيضاً نسارع لنكون متصدرين بأي وجه من الوجوه، سواء بتصدير صورنا أو أصواتنا، لكي يرانا الآخرون. 
 في الوقت الذي اعتقدت فيه أن بعض حواسنا بدأت في الاضمحلال، وأن الحاسة الوحيدة التي ستتصدر اهتمامات منتجي السلع والخدمات هي البصر والاعتناء بكل شيء بصري، ظهرت منصة جديدة تعيد تصوراتنا من جديد حول ما يمكننا أن ندركه عن أنفسنا وعن الآخرين، بطريقة مختلفة، عما ساد خلال العقد الأخير.. صحيح أن منصة اجتماعية مثل (Clubhouse)، أو «كلوب هاوس» قائمة في أساسها على غرف دردشة، وأن هناك من يتصدر الحديث في الغرف، إلا أن قوة الغرف -في رأيي- نابعة من حضور مستمعين حقيقيين -وصل في بعضها بين 500 و2000 شخص- لحوار حول موضوع ما في وقت ليس بالقصير، هو ما لم أتوقعه، وخصوصاً أن فرص الحضور للمشاركة تكاد تكون معدومة في ظل هذا العدد الكبير منهم، وذلك حسب ما يسمح لهم صاحب الغرفة، وهو ما يجعلهم النخبة الحقيقية الصامتة. 
 على الرغم من أن غرف الدردشة ليست جديدة على عالم «الإنترنت»، غير أن مستخدمي هذه المنصة رفعوا من قيمتها، سواء الاقتصادية أو الثقافية؛ فقيمة الاستماع والإنصات تفوق قيمة التحدث، التي أخبرنا عنها سقراط، وخصوصاً في وقت كالذي نعيشه الآن، وقت لم يعد فيه أحد.. ينصت لأحد.