كان الضحى مشرقاً، رقت به نسائم الشتاء. وكنا ثلاثة، أنا وابني وحفيدتي، وكان الله رفقتنا لينجينا برحمته من سلالة الوباء. وحولنا أفقٌ يمتدُ بنا حتى مطلق الأمل. رأيت الشاطئ كأنه وسادة الموج كلما أوشك أن يغفو قليلاً أيقظه النشيج. وموج البحر أسلسَ رهبة الموج. وكانت إشراقة الضحى تداعب فتنة البحر. ونحنُ كنا مأخوذِين بالدهشة بفتنة الضحى وفيض الضياء الرهيف. كنا ثلاثة والحب رفقتنا. وحولنا رمل الشواطئ كأنما السّكر معجون بهيئته. البحر من سحره يغري مراكب أحلامنا إلى التجديف والإبحار إلى صحوة الآمال. أرواحنا تصبو وتضج بالرغبات، كما تضج بعمق البحر رهبة الأمواج. سألت نفسي وأنا أحدّق في البحر: من جاء قبل الماء نحن أم البحر؟ وهل نشأنا كما تنشأ الأصداف من نطفٍ قد احتواها الموج، أم احتوى سرنا الرحم؟ وهل سنفنى بالجوائح كما تفنى القواقعُ في لجّة العصفِ؟ تلهو بنا الأمراض في أقدارنا حيناً، وحيناً تعود بنا نطفاً في لجة الترابِ؟ ترى.. أكنا نحن من جاء إلى البحر، أم أنه البحر الذي نادانا فلبينا وتُهنا في أسراره؟ كنا نسير على رمال الشاطئ، فتساءلت: من أين جاء البحر ؟من ألقى به شالاً على الشطآن، وصيرّ الرمل مرايا تضج بفتنة الأصداف واللؤلؤ الدر والمرجان؟ وحين رأيت حفيدتي تسبح حيناً في البحر، وحيناً تلهو بالرمل والأصداف، سألت ابني: من علّم الأطفال أن يأمنوا الماء، وأن يلهو مع الأصداف والأمواج، وأن يستأنسوا الشطآن؟ قال لي: الأطفال لا يدركون أن الماء منبتهم، وأن كيمياء الماء هو السر في وجودهم ومسرى حياتهم. ولا يدركون أن الماء حين يعصف كطوفان سيغرقهم. قلت: إذن هل يعلم الأطفال أن بيوتهم التي يبنونها بشغف اللهو واللعب من رمل الشواطئ رغم جمالها سترجع مرة أخرى بمد الموج إلى الرمل؟ ومن علمهم أن يبنوا بلا كلل مرة أخرى كأنهم أول من يبني؟ قال لي: لكنك لم تتساءلي عمن علّم الإنسان أن الوقت مثل الموج في المد والجزر، يمحو ما بنيناه، وإن الحلم أبقى مما تصنع الأيدي، وأن الحلم يستعصي على الأمواج والأزمان والأهوال والأمراض والعسفِ!
كان الضحى مشرقاً، وكنا ثلاثة، والشوق إلى الإبحار والأحلام في لجة البعد يرافقنا ويغرينا. والشمس غيرّ طبعها الفصل. ألقت على الأجساد بهجتها. رقّتْ حتى بدا اللهب الذي ساطت به الدنيا في حرقة الصيف، ضوء أليف يرج الماء في رفق ويؤنسنا! كنا ثلاثة، وخفق قلوبنا كالبحر الذي من سرِّهِ الخفق في المد والجزر !