لا أحد في هذا المقهى، وحدي أعد الكراسي الفارغة، جاءت زرافات اللاهثين خلف الدوامات الباكرة، على عجل حملوا أكوابهم الورقية الطافية بسواد القهوة الساخنة، وتسابقوا نحو الطريق، تفرغ النادل والنادلة ليديرا الحوار والحديث معي بأريحية بعد موجة الجري بين آلة إعداد القهوة وصندوق الحساب، وحفظ النقود والأوراق الحسابية الصغيرة.
تتعجب من البعض أنه يستخدم البطاقة البنكية في دفع مبالغ زهيدة جداً، تسأل نفسك هل هي ثقافة شعوب أخرى، أو أن الفلس يضرب جيوبهم؟ والأكثر ملاحظة أنهم يحتفظون بالقصاصات الورقية التي أخرجتها الآلة الحاسبة.
وبما أنك إنسان صحراوي تموت حياءً أن يكون جيبك خالياً/‏ خاوياً تماماً ثم تخرج للتسوق/‏ للسوق أو أي مقهى صغير، ثقافتك الموروثة لا تقبل هذا أبداً، سوف تموت خجلاً أن تذهب وعاصفة الإفلاس تضرب جيوبك، فقد تصادف صديقاً أو من يقصدك في طلب صغير، ثم تشح بوجهك بعيداً، أو تعتذر عن مبلغ زهيد لا يتعدى كوب شاي أو قهوة طلبها أحدهم، ولكن هذه الأسئلة بالتأكيد غير واردة عند ذلك الذي يدفع ثمن كوب قهوة بالبطاقة، ثم يحتفظ بقصاصة الورق التي لا تتجاوز العشرين درهماً أو أقل..
مدينة تتغير بثقافتها وناسها، عاداتها وطباعها، لكن أن تتخيل بأن تحضر للمقهى بنصف «فانيلة» تحملها خيوط رفيعة على الكتف ونصف بنطال «هاف» قصير جداً، وتضع رجلاً على رجل غير مبالٍ بالذي أمامك أو جانبك، نعم وجوه كثيرة لا تعرفها الصحراء ولا الشمس ولا الرمل، وبعضها من نفس الصحراء، والذي يجد أن الحياة هكذا يجب أن تعاش، لا ضرر ولا احتجاج ولا تعجب كبير، ولكن مراقبة كيف تتحول المدن سريعاً، وكيف تنتقل الثقافات سريعاً، وكيف نقبل القادم المقتحم ونحن في صمت الحجارة، لا بأس ولا قبول ولا رفض، فالمتغير والمتبدل حاضر وحاصل، ولا يفيد شيئاً أن تقف مثل صخرة في مصب الوادي أو الشلال، فقط راقب بعينك الواسعة أو الذابلة أو الحمراء، وحدك مع زمنك ورؤيتك واعتقادك، أما المدينة، فإنها في تغير سريع لا يعادله غير هبوب الريح ولمع البرق!...
اشرب قهوتك بمهل وهدوء، وارحل خلف خيالاتك مثل غيمة الآن تمر في السماء الشتوية البديعة، وحدها سوف تسقط ماء المطر على الجبال الجنوبية البعيدة، أما أنت فانعم بقهوتك وأحلام الريش والقطن البيضاء، والتي تأتي ولا تأتي، راقب الدروب واقرأ تغير الوقت بصمت، حيث لا سيد غيره!..
الكراسي في المقهى لا تزال فارغة، والنهار يمضي بخفة جناح فراشة، سوف يأتي المساء هنا ويأتي الضجيج، ارحل الآن إن كنت لا تهوى الضجيج والموسيقى العالية، مساء المدينة غير نهارها سوف يحضر آخرون بهندامهم الجميل وتسريحاتهم الجميلة نساء ورجال، سوف تحضر الابتسامات ومن لا يبالي بالدفع، ولا يلتقط قصاصات الورق الصغيرة ليدسها في جيوبه لكل فترة وزمن ووقت ناسه وجلاسه، ولذلك عليك أن تختار الفئة التي تواكب ثقافتك وفكرك، أنت من رواد المقاهي الهادئة وعديمة الحركة، وآخرون لهم صخبهم والأجواء التي تناسب ثقافتهم وتفكيرهم.
عليك أن تحب المدينة، كما هي بكل وجوهها الجميلة والمختلفة، هي رائعة في هدوئها، ورائعة في صخبها وجمالها، وأروع بوجود كل هذه المتناقضات وكل الناس على مختلف أجناسهم ومشاربهم وثقافتهم، مدينة تصنع التسامح والجمال، وتعلمه للمدن الأخرى.