من الأشياء التي أحبها في مدن أوروبا الشتاء والمطر، ولكن بشروط أهل الصحراء وسكان المدر، شتاء لا يجعل أضلعك تتلاقى من البرد، ومطر لا يصحبه طهف، وتصبح الطرقات كالغدير، فأحياناً يتحول شتاء أوروبا لزمهرير لا يمكن للعظام أن تتحمله، فدرجة الـ «برودة» تصل 24 درجة مئوية تحت الصفر، وأقل، وهذا يعني أن «مسيو لو جنرال» كما يسمون الثلج الأبيض المتراكم -لا الثلج الأسود الزلق- سيمكث طويلاً في تلك المدن، وسيبقى ثقيلاً على نفوسهم، لأنه يجلب الضجر، ويبعث الكآبة فيهم، وسيحرمون من الضوء والشمس، وستنهار أجسادهم لنقص فيتامين «د»، الأمر الذي يضطرهم لأخذ أدوية ضد كآبة الشتاء، وهناك أجهزة إضاءة خاصة عليهم تشغيلها نهاراً وليلاً للإحساس بعدم الظلمة التي تجلب مع سوادها ضيقاً في الصدر من نوع آخر، بالنسبة لي الشتاء جميل لأيام معدودات، لا لأشهر طويلة، لا ينتهي ليلها، خاصة وأنه يلزمني بثيابه الصوفية الغليظة والوبرية الداكنة التي تزيد من عبء تحمله، خاصة والناس تراهم يتشابهون بتلك الثياب، والضحكة عنهم غائبة، والنساء غير فرحات بالأردية الغلاظ التي تسلبهن نصف أنوثتهن، بخلاف الصيف الذي يطبع الناس بطباعه الخفاف، وثيابه البيضاء المنعتقة، وأحياناً يجعلهم متحررين منها، جرداً منطلقين لبحره وشمسه، وضحكاتهم تسبقهم!
وأسوأ الشتاءات تلك التي يرافقها مطر لا ينقطع، فيغدو الأمر كارثياً، فلا تشعر برومانسية المطر، لأنه لم يأت وحده هذه المرة، إنما بعاصفة وريح صافرة، فتضطر أن تحمل شيئاً لا تطيقه، تلك المظلة أو المطرية - لكي نفرق بين ما نتظلل به وقاية من الشمس، وما يمنع عنا قطرات المطر- هذا الشيء وإن تعددت ألوانه، وغلا ثمنه، وأصبح جزءاً من القيافة، ولزوم الهندام، لكنه مربك ومحير، ويمكن أن يخالف الأرجل في مناطق البلل والزلل، وتحتار أين تضعه، وبمقدار أي علو ترفعه، خاصة إذا ما كانت الجثة تميل إلى القصر مع سمنة واضحة، مثل أحد أفراد العصابات الصقلية الذي لا يتقن حرفة، فتخشى أن توغف عين واحد مستعجل، وكل البشر في المطر تجدهم بتلقائية يهرولون أو يركضون، ولو كانت المظلات فوق رؤوسهم، وهي طبيعة إنسانية، لا تعرف كيف تسلطت على الناس، وغدت عادة ملازمة للهروب من الماء، يمكن بتلك المظلة التي لا تعرف كيف تمسكها باليد اليمنى أم اليسرى، وهل هناك «إتيكيت» في حملها، لا تعرفه، وتخشى السؤال عنه؟ في تلك الحيرة تظل موسوساً بتلك المتخيلات الوهمية، خوف أن تخلع «باروكة» عجوز، وتعال بعدها فكّ نشبتك من العجوز إن قدرت أو تجرح خد صبية كان يلتمع بقطرات من المطر قبل قليل، فتصرخ، ويلتفت لصرختها صديقها الذي بدأ حياته سائقاً لحافلة عمومية، ومع كثرة غيابه ومشاجراته، استقر به الحال عند باب حانة يحرسها في وقت فراغه، وغداً نكمل..