بدأ الليل يحضنني والعتمة تعزف أوتار السكون. هدأتُ وأغمضتُ عيني وهمستُ لنفسي: آآه، لقد تعبت من شغفي بالشعر، ونقوش الكتابة. أود أن أكون فيلسوفة. ضحكتْ نفسي وقالت: لماذا تريدين هذا المنعطف الصعب؟ قلت لها: لأني أريد أن أبحر في عمق الوجود، لأكتشف سر الغباء وسر الفناء، وسر الخلود. 
دهشتْ وقالت: لكن هذا أمر صعب. قلت: لماذا هو أمر صعب؟ قالت: لأنك حتى تبلغي ما تتمنّين، لتكوني فيلسوفة، ثمة شروط صعبة. قلت: وما هي هذه الشروط؟ قالت: عليك أن تمتلكي القدرة على تجاوز وهْم الخرافات، وسلاسل القيود! قلت: إذن هل عليَّ أن أبقى شاعرة وكاتبة فقط، كما كنت منذ زمن بعيد؟ قالت بلى: ابقيْ شاعرة كما كنتِ حتى لو نقشت قصائدك على صفحة صفراء كبقايا الرماد. فكل الكلام الذي تضج به أسماعنا صباحاً مساء، فصلاً وفصلاً، ليس سوى حروف نقشت على صفحات الهواء. وسوف يقول لك العابرون على طرقات هذا الزمان، كفاك شعراً ونقشاً فلم يعد لجواهر المعاني في الشعر والكتابة حكمة وبريق. ولم يعد لغير الأماني والأحلام اصطفاء! 
قلتُ: اطمئني أيتها النفس المخادعة، لكنني أسألك: لماذا لم يعد وهج الشاعرية يضيء خيالي؟ قالت، وفي صوتها نبرة من الأسى: ربما لأنك سكنت في خيمة الكآبة واستكنت إليها، ولم تدركي أن الخروج منها يقتضيك توهجاً وحيوية لممارسة كل ما تعودت سنين طوالاً على إنجازه، شعراً كان أو كتابة أو هوايات فنية متعددة كانت تزيح الكآبة وتطرد اليأس اللعين الذي يطرق رأسك كلما أوشكت أن تمارسي عملاً ما، بمطرقة اللاجدوى! قلت لها: لكن لماذا ينهض هذا الشعور اللئيم كلما أوشكت أن أعمل شيئاً جديداً، أو أنجز ما بدأت به ولم أكمل؟ تنهدت بحسرة وأسى وقالت: لأنك من صنف البشر المغرورين بأنفسهم وقدراتهم لتحقيق كل ما يطمحون إليه. يخططون لمشاريع كثيرة ويرسمون لها مسارات وطرقاً ووسائل، لكنها تبقى على الورق. لأنهم لا يدركون في خفايا أنفسهم أنهم من ذلك الصنف الذي يجيد ابتكار الأفكار فقط، ولكنهم لا يجيدون تحقيقها على أرض الواقع. تأوّهتُ بصمت ثم قلت لها: هذا رأي صحيح تماماً. فقد خططت وابتكرت أفكاراً ومشاريع ثقافية وفنية، ولم أنجز شيئاً منها. فما هي الأسباب في رأيك؟
قالت بغضب: لماذا نسيتِ أن الشعراء أمثالك لا يحسنون إنجاز المشاريع التجارية؟ ولأنهم يفيضون بالطيبة والكرم فقد تعودوا أن يعطوا ولا يأخذوا؟ فكيف تطمحين أن تنجزي مشاريع ذات مردود تجاري، وأنت لا تحسنين حتى ناتج الجمع والطرح!!