في منطقة بوعطني التابعة للعاصمة الليبية طرابلس، يقع كهف عظيم الحجم، في عمق قاعه هناك بحيرة ساكنة كسكون يمتد منها نهر لا نهاية له، أسماه الإغريقيون «نهر النسيان». تقول أسطورتهم المتعلقة بهذا المكان: إنه يتوجب على الأرواح التي غادرت أجساد ساكنيها أن تمر من هذا النهر لتتطهر وتنسى آلامها قبل بداية رحلتها الأبدية، وتضيف الأسطورة أن من يشرب من هذا النهر ينسى جميع مآسيه، والإرهاصات التي عانى منها في حياته. وفي جانب من الكهف بقايا حديقة التفاح الذهبي، التي حرستها الجميلات الثلاث وبرفقتهن تنين، وفي مياه النهر الضحلة والعميقة تصارع هرقل مع الشيطان.
وفي كندا نجد جسر النسيان المعلق الذي شُـيِدَ في عام 1889، ويبلغ طوله 135 متراً، ينتهي في عمق غابة مطيرة متخذاً اسمه من تأثيره على مُـعـتَلِيه، فبمجرد اقتحامه والسير عليه ينسى المرء هموم حياته وديونه وما ينتظره من عمل قام بتأجيله إلى حين عودته من الإجازة، يقول أحد مرتاديه بأن للجسر سحراً لا يستشعره المرء إلا في الليل عندما يمتد جمال المنظر ووقع الغابة على النفس، فيشعر المرء وكأنه معلق في الهواء، وليست للوقت بداية أو نهاية.
وفي الصين نجد حساء النسيان الذي أسموه بحساء «مينغ بو»، وهي من آلهة النسيان في الأساطير الصينية، التي وبحسب الروايات تقدم حساء يمسح ذاكرة الأرواح قبل أن تتناسخ، ولهذا الحساء الذي يقدمه مطعم شعبي رائج في الصين سحرٌ وجاذبية، إذ يتهافت عليه الجمهور ويقال بأنه من يحتسي هذه التركيبة السرية يتلاشى عنه القلق، ولا يعرف التوتر الناتج عن وباء كورونا، ويتمكن بكل ثقة واقتدار الاسترخاء ونسيان الواقع.
للعارفين أقول، نعيش بين نقيضين هما الذاكرة والنسيان، وقد تأقلمنا مع كل منهما، فالذاكرة تاريخ كما للنسيان بوابة مشرعة أبوابها يمحو المآسي والأحزان، فلا تترك أو تؤثر على شخصنا وثقافتنا، لقد بذل المبتكرون في ثقافات وحضارات العالم الممتدة عبر الزمان والمكان قصارى جهدهم لتفضيل النسيان وحب الذاكرة، وهذه المعادلة أشبه بموازنة النوم والسهر، التي قال عنها عمر الخيام في رباعياته: «فما أطال النومُ عمراً.. ولا قصّر في الأعمار طول السهر».