حين يتحاور الأدباء المخضرمون، تشعر بروح الإبداع الجميل المخبأ بالكلمات المنتقاة، وهم منتمون كل الانتماء إلى أفكارهم وثقافتهم الموثقة فيهم، يتحدثون بلغتهم من دون زلة أو اعوجاج، ولربما لم يعد في حياتهم ذلك التعاظم الحداثي المفرط بالأنانية، لم يعد لديهم سوى ذاكرتهم يعتنون بها، ولا زالوا يحملون أحلامهم في قلوبهم النابضة، وهم يبتهجون بثورة من خيال الإبداع، وكأن إرادتهم الفكرية أصبحت متشبعة بالحرية والقيم والإنسانية وما يؤمنون به.. كأنهم يشاغبون الأزمان المهمشة في ضياعها الجارف، فما هو جميل ما لهم من علاقة زمنية منفصلة عن التاريخ النمطي للحياة، ينظرون بهذه الأفكار الجميلة والمعبرة نحو مجتمعاتهم، ثمة ما يشغلهم، مجتمعاتهم وتطورها، ويخشون عليها من الانزلاق البعيد غير محسوب العواقب، هل هي ما يحملونه من كوابيس ومخاوف كبرت فيهم وتجسدت، كبرت فيهم بثقافة مختلفة وبلغات مختلفة، وقد تهشمت المجتمعات في نظرهم، ولربما هم محقون، فربما تهشم الإرث الثقافي القائم عليه كل شيء، بل هو ملاذهم، الذي يحفهم بروح الحياة، لكن الخسارة قد طالت كل ملذاتهم الجميلة.
وكأنهم يتخيلون الحياة في كتاباتهم القديمة، أو حتى الحديثة منها، فانتماؤهم في ترحالهم الزمني وحتى هذا الترحال بدأ لا يحلق بعيداً، ثورة العقود الزمنية انتهت، لم يعد هناك مشرعون للفلسفة لا في الشرق ولا في الغرب، ولكن بقاءهم في ذاكرة الغرب الحر هو بقاء محتوم يختلف عن المد الثقافي القادم من الحياة الآسيوية البعيدة، التي تحمل إرثها من الغضب والديكتاتورية التي تشنق الشاعر، وتصادر كتب الأديب، وتحرق كل ما هو جميل، لا زالت حياة الغرب أجمل كما قال أحدهم!
وقال هي أجمل فعلاً، بعد أن طال الزمن المبتهج بالفوضى، طال إرثنا العميق.. وهذه لها عواقبها الإيديولوجية والثقافية على مر العصور، ولربما تظهر في الغرب شرذمة من هذا النسيج لتطهر العالم من شوائب الخرابات، وتبث فيه الروح من جديد.
طبعاً، ما قاله صديقنا هو اعتقاد سائد بأن يعود العرب من الجهة الأخرى، ليقودوا حضارة الغرب، وما هذا بعيداً، فالحضارة الإسلامية خرجت من الصحراء لتروي الحياة بالتقدم والازدهار. طبعاً كلها حوارات واجتهادات، أضفت عليها بعضاً من اللمسات الثقافية التي خرجت منها، لكن في الحقيقة مثل هذه الحوارات لها لذتها، وقد نفتقدها في عالم الإبداع ذي الاحتفاء بالثقافة بطريقة ما خارجة عن الفكر تماماً ومستحدثة بطريقة إقصائية للثقافة، وقد لا تمت لها تماماً بل مؤسسات ثقافية خارجة عن نطاق الثقافة، وتخفق في برامجها وندواتها، وليس بإمكانها أن تجاري الأحداث الثقافية والمجتمعية.