في مراسلات تجاوزت ما نعرفه من تاريخ أي في مطلع القرن الرابع عشر قبل الميلاد تحديداً، كانت بين فرعون مصر وملوك جبيل مراسلات وثقت تسمية بيروت باسمٍ ارتبط تاريخه منذ ذلك الوقت، وربما قبله بكثير، إلى الآن بـالأساطير الخيالية والحقيقة المشعة والجمال والقانون، ونعتها المحبون بمدينة الآلهة، وزهرة الشرق، وست الدنيا. من يعرف شعب لبنان يعرف قدرتهم على التحمل، وجمال صبرهم، وثقتهم بأن الغد سيكون مشرقاً، إلى درجة أننا سنلبس نظارات الأمل، ونتجمل بكل ما لدينا من حلي وملابس، فالمستقبل الباهر لن يكون ضيفاً زائراً، بل أبٌ عاد ومعه بيت القصيد.
عندما دوّى ذلك الانفجار، انفجرت في قلوبنا لوعة، وجالت في خاطري سيناريوهات كثيرة، منها: أي أم ستبكي على ضناها اليوم أو غداً، وستمشي في جنازته قريباً لتستقبل المعزين، بدلاً من ترحيبها بضيوف زفافه؟ تُرى، من هو ذلك الذي كان مسرعاً في عودته إلى منزله وفي يده كيس خبز لأفواه تتطلع إلى خيالٍ أبٍ، أٌم أو شقيق يجلب فتات يصون الكرامة ويهزم زئير بطونهم الخاوية؟ ما هو مصير الكلاب والقطط والطيور التي اعتنى بها أصحاب القلوب الرحيمة التي يسبق فعلها للخير كل شيء آخر؟ تُرى، من كان ينتظر غداً لتتحقق له أمنية، وظيفة، زوجة، بيت؟ ومن منهم كان مع حبيبته على البحر يسمع أغنية تتأرجح مع ألحانها الأقدام؟ مَن سُرِق شبابه؟ ومَن سُرِقت عيناه؟ ومن مازال يبحث عن ابنته وضناه؟
جمال لبنان وأهلها سلبنا النوم ولذة الحياة، حتى أمسكت هاتفي وصرت أبحث فيه عن أرقام أصدقائي وعبر جسور التواصل الاجتماعي، تجاسرت وكتبت لإحدى صديقاتي كلمة واحدة من 6 حروف «طمنيني»، فردت: «بنشكر الله»، سؤال اختصر التفاصيل، وجواب برر الواقع؛ ولصديق آخر أرسلت دعاء، فكتب «شكراً جزيلاً دكتورة عائشة على عاطفتك النبيلة التي هي من شيم شعب الإمارات العربي الأصيل، أبناء زايد الخير، حكيم العرب. نحن مادياً بخير، لكن معنوياً الحزن يملأ قلوبنا، وعزاؤنا إيماننا بالله، ووقوف أشقائنا معنا، وعلى رأسهم دولة الإمارات الشقيقة».
للعارفين أقول: بيروت المدينة التي لا تنام، قاهرة الظلام بأنواعه ستشرق يوماً لتفرح بشمسها الشموس، وتغني لشبابها السيدة ماجدة الرومي، وتعزز هويتها الست فيروز التي تأخذنا أغانيها، مع شمس كل صباح، لبيروت والجبل وبحمدون والروشة وكروم العنب، والأهم من ذلك كله تلك المشاهد التي حفرتها حكايات لبنان في الذاكرة، ومنها ما تصورنا أنفسنا جزءاً منه. هذا الصباح وفي طريقي لفحص الكوفيد - 19، فتحت الراديو وسمعت أم زياد تغني: «إمــــــي نامت ع بكير وسكر بيي البوابــة... وأنا هربت من الشباك وجيت لعيد العزابي، شباكـــي بعدو مفتوح والبردايـــة عم بتلوح.. إن عرفوا بغيابي أهلي... يا دلي وين بدي روح... وين بدي روح يا دلي... إن عرفوا أهلي بغيابي».
بيروت تاريخ، ومجد، وعطاء، ولبنان جبل من الصمود ولدى شبابه، كما لشيبانه، روح تتجدد وعزيمة لا تموت. بيروت.. آه عانقيني.