قرب الأنهار، والبحار والجبال والغابات، كان  الإنسان يطرب لصوت العصافير والطيور كلها، يأخذه حفيف أوراق الشجر، هطول المطر، مشهد القمر الناصع، النجوم وهي لامعة، وهي تهوى وهي في تشكلاتها الفاتنة ليلا، الشلالات المنهدرة، مشهد الطبيعة كما هو بلا رتوش؛ كان كل ذلك يأخذه إلى التجلي بالوجود، حيث الصفاء متسع في الذهن. كان ذلك من زمن الإنسان وهو في أزهى علاقته مع الطبيعة.

في العام السادس والسبعين من القرن التاسع عشر،  حيث  دُشن عهد الهاتف الذي شق الأثير كي تعبر الحروف والكلمات، ويعبر الكلام بكل أشكاله إلى أبعد من مداه بآلاف الأميال، مذ ذلك، انطلقت رحلة التطوير الرهيبة للهاتف، حتى سكن اليوم في كل حياتنا، بل سكنت حياتنا كلها فيه؛ أصبحنا تابعين له، يقود أفكارنا ورغباتنا، أشواقنا، حبنا، اهتماماتنا تركيزنا وحتى مستقبلنا.

لقد ضربنا الهاتف مع تطوره في مقتل، شل فينا حالات التأمل الطبيعية، الاسترسال في مشاهد الطبيعة، الكلام دون كتابة، الابتسامة دون «ايموجي»، الفعل ورد الفعل، الجلوس الرحب في البيت قرب الأُسرة دون أن يبقى كبار السن يمضغون الصمت ويشعرون بالغربة بين الأبناء والأحفاد، لقد انسل الهاتف بيننا وخطفنا واحدا واحدا، حتى أدمناه وفر بنا بعيداً عن حاجتنا المنطقية له، لقد فشلنا في الهروب منه وبتنا لا نقدر على فراقه؛ أصبحت الفرجة فيه، الخبر فيه، القصة فيه، الموت فيه، الولادة فيه، الكره فيه، الحرب فيه، الفرح، الحزن، العمل، المال، كل شيء أصبح فيه، حتى الحب هذا الشعور الذي يعد ابن الطبيعة الأول قد سُرق أيضا بكل أحواله.

فالمشاهد التي نشاهدها بين الجموع، حيث يظهر الكل تقريبا متوحدا مع هاتفه، يبدو أنها سوف تقرر شكلا آخر لوجودنا، شكلا نُسلب فيه من واقعنا ولا تعود هناك قيمة لوجودنا الطبيعي،  لا للوردة بعطرها حين نهديها للحبيبة ولا للشعور حين تلتقي كفا عاشقين.

هناك شيء ما انكسر من جمال الحياة وغادرنا إلى الأبد، وأصبح شيئاً جديداً يقودنا، وهو هذا العالم الرقمي المذهل الذي أصبح بين  يدي الصغار قبل الكبار، عالم نتمنى مع توالي الزمن ألا يفقدنا كل طبيعتنا ويبدلها بطبيعة جديدة تحيلنا إلى أشباح.