أهداني صديق عزيز قطعة موسيقية في غاية الروعة، تعتمد على أداة واحدة وإيقاع مصاحب يضيف للقطعة الموسيقية أو العزف البديع بعداً محلقاً آخر، وكأن ذلك التناغم هو سر الروعة والجمال الذي يصل إلى المتلقي/‏ المستمع، دهشة كبيرة يبعثها ذلك العزف الراقي الجميل على الرغم أن الأداة/‏ الآلة الموسيقية بسيطة جداً، ومن الأدوات الموسيقية الأولى التي عرفها الإنسان، فالأداة مرتبطة بالفضاء المفتوح بالسماء الواسعة ولمعان النجوم، بل بالغمام العابر إلى البعيد في السماء، واخضرار الأرض، وجريان الأنهر الصغيرة والأودية الهادئة وعيون الماء والينابيع.
إنه الناي، ربما هو أول صوت موسيقي يحلق بالخيال الإنساني، والمؤثر بقوة في تداعياته المختلفة من الحب إلى الحزن أو السعادة الطافية، وأيضاً بعث الحماس والقوة عند البعض، لم يكن يحتاج الإنسان غير قصبة وعدة ثقوب فيها، ثم يمتلك ما يؤنس وحدته ويعزز نشاطه وحبه للحياة، فقط أن تعرف كيف تحب الحياة وتبعث الجمال ونفسك وزفير صدرك عبر قصبة/‏ آلة مفرغ جوفها، ولكنها تحمل أيضاً كل الحب والصدى البديع الذي ينساب عبر الشلالات أو اهتزاز الأزهار مع النسمات العابرة إلى البعيد، الناي أروع آلة موسيقية وأجمل أداة امتلكها ذلك الإنسان، الذي توحد مع الجمال والحب والأصوات الباعثة حب الحياة.
يقابل هذه الأداة الموسيقية البديعة والمرتبطة أيضاً بالفضاء المفتوح وجمالية الرمال والكثبان والتلال الصحراوية تلك الآلة الفردية أيضاً في صوتها وألحانها، التي تناسب كل الصحاري العربية، والتي رافقت الصحراوي في حله وترحاله، وآنست وحدته وحملت آمال وآلام صدره ونثرت قصائده في الفضاء.
إنها الربابة، رفيقة الشاعر المحب والقصيدة الجميلة التي تحمل صدق الصدور وصدق العواطف في العشق والحرب والسلام، هذه آلات وأدوات موسيقية صغيرة وفردية، ولكنها في غاية الجمال والإبداع عندما تكون في يد فنان وموسيقي بديع، هذه الأدوات الموسيقية القديمة الجميلة لا تحتاج لمدارس أو معاهد أو جامعات، لا تحتاج لمعلم أو أستاذ يقدم الشروح والتفاصيل، إنها تحتاج لإنسان عاشق ومحب للفن والحياة، إنسان حالم بالجمال مندمج مع محيطه، ووجوده في هذا الفضاء المفتوح للحب والجمال. لا أدري لماذا هاتان الآلتان على وجه الخصوص تبعثان فينا خيالات تحملنا بعيداً، حيث المرابع والينابيع والأنهار والحقول الخضراء أو المراعي الجميلة في الرمال الذهبية، وكذلك تذكراننا بلمعان النجوم وضوء القمر المنير وارتحال السحب والغيم في السماء، ثم زخات المطر وقطراته الناعمة، وحتى تلك الحيوانات الأليفة الجميلة تمر بخاطرك، عبر رحيل الراعي خلفها في الهضاب والتلال أو المراعي المفتوحة الخضراء.
صديقي الجميل، دائماً ما يتحفني بالاختيارات البديعة والجميلة في الشأن الثقافي والفني، أحسب أنه فنان، ولديه حس جميل وذائقة موسيقية جميلة أيضاً، فهل الناي والربابة هما بداية لصعود الذوق الموسيقي، أم هما الأرضية التي انطلقت منها الموسيقى مع الإيقاعات طبعاً؟