على مدار الأشهر الستة الماضية، تلقيت عدداً هائلاً من الصور والرسائل، وحتى نسخ من اختبارات الصف الأول متوسط، وصور لمجموعاتنا في المدارس، كل هذا فقط لأن الناس جلسوا في بيوتهم ينبشون في خناخيش المكان والصناديق المهجورة والوثائق التي تركها راحلون. النبش هذا فتح جروح الزمان التي عالج بها أمراض الحاضر، وجعل منها متكأ للمستقبل. من منا لم تصله صورة قديمة ضحك فيها على ملابسه وطريقه تسريح شعره، وعلق على ما حوله في تلك الصورة. هذا هو التاريخ، وهذه هي الوثائق التي ترسخه في الأذهان والذاكرة الجمعية ومعطيات الوقت. عندما نظرت إلى صورة جمعتني بأختي سمية التي تكبرني بعام، وأخي محمد الذي يصغرني بعام، كنت في منتصف الصورة، ولكن لحظة، تلك الملابس التي تدل على الذوق الرفيع، وذلك الترتيب الذي يشير إلى عناية فائقة أولاها الوالدان لتبقى صورتهما انعكاساً لذاكرة الأبناء. إنها صور تخرجنا من مستنقعات أنفسنا، وتجعلنا نقهقه أحياناً، وتكون بذلك قد أنجزت مهمتها، وعبرت عن معاناة الأهل، ليبقى الأبناء سعداء، رغم كل الظروف.
عندما جاءني زائر الحزن ونبأ وفاة المفكر الإماراتي حسين عبيد غباش - رحمه الله - حضرت صور الذاكرة التي جمعتنا لسنوات، وإن تغيرت جغرافيا الوقت وتضاريس المكان. كتبت في رثائه: «وداعاً يا جميلاً وقفت معه عند بوابة الأمس وغد والذكريات.. رحلة العمر انتهت وبدأت رحلة الحياة»، وهناك من لا نحتاج لذكراهم وثائق، أو تسجيل صوت، ولا صورة.
وبزغت شمس الصباح، عندما أرسل إلي أحد البروفيسيرات صورة يسألني إذ سبق أن رأيتها من قبل؟ ومن هي الشخصية التي تبدو بها؟ وسرت أنبش، كما ينبش الباحثون، وأقرأ اجتهادات الآخرين وهم ينبشون في خناخيش التاريخ والذاكرة، حتى حسمت سمو الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، عبر حسابها على موقع إنستغرام، الأمر وكتبت «لإيقاف التكهنات.. استخرجت هذه الصورة من مكتبة والدي بقصر البديع.. والصورة للشيخ زايد الأول حاكم أبوظبي في بداية مارس 1866»، وبذلك تكون سموها قد صححت الإشكالية المتداولة حول شخصية صاحب الصورة، وبشكلٍ قاطع.
للعارفين أقول: إرث المجد والذاكرة تحمله الصور والتصورات، وفي خلوة كوفيد-19 لم يتوقف المبدعون عن بحثهم وعطائهم لهذا الوطن الذي نعتز به، ونتباهى بقيادته أمام الأمم. اللهم احفظ بلادنا وسائر بلاد خلقك، وارفع عنا البلاء. كل عام وأنتم بالذكريات والصور والوثائق أجمل، فهي ما سينبشه أولادكم وأحفادكم في المستقبل. عيدكم مبارك، إن شاء الله.