عندما أُسافر، كنت أتأمل ليلاً - بكم غير طبيعي من الفضول- تلك الإضاءات الخافتة للشقق والمنازل الصغيرة، وكنت أتساءل باستمرار: كيف يقضى أصحابها أوقاتهم الخاصة؟ ماذا يقرأون وفيما يفكرون؟! لدي قناعة خاصة أن الهيئات المثيرة والمميزة لتلك النوافذ والشرفات، إنما هي لأناس لهم مِزاج خاص مثير، بقيت على حالي ذاك كلما سافرت وتجولت في مناطق بيوتها بلا أسوار، أغذي خيالي بصور عن جلسات أصحابها، والموسيقى التي يستمعون إليها، والقضايا التي تثير حيرتهم، غير أنه لم يساورني هذا الشعور وأنا في الوطن، ولا أعلم لماذا! هل للأمر علاقة بالأسوار التي تحجب تلك الرؤى، أو تطابق النوافذ والشرفات كان قد بَلَدَ حاسة الفضول لدي؟!
والآن، ولدواعي الصحة والسلامة بسبب «كورونا»، اعتقدت أنني سأفقد هذه الهواية، غير أن الظروف جرت على غير ذلك، فقد كُلفت بعمل يعزز هواية التطفل الذهني لدي، عندما أدرت جلسات «تجليات في العزلة»، التي أقامتها «مؤسسة بحر الثقافة» خلال الشهرين الماضيين، واستضافت فيها نخبة من الأعلام في الإمارات، لقد عمدت الجلسات إلى إبراز زوايا أخرى مضيئة يمكننا استجلاؤها من تلك الساعات الطويلة، التي جمدتنا فيها جائحة «كوفيد - 19» داخل بيوتنا، ولهذا كان اختيار الضيوف يعتمد أساساً على تنوعهم، ومن ثم ثقلهم المعرفي وإسهاماتهم النيرة في محيطهم، فشاركنا تلك الجلسات الباحث والأديب سلطان العميمي، والدكتورة نوال الحوسني المندوب الدائم للإمارات لدى الوكالة الدولية للطاقة المتجدد، والنحات التشكيلي مطر بن لاحج، والمخرج محمد سعيد حارب، وعلي آل سلوم المستشار الثقافي والسياحي، والكاتب والمخرج السينمائي ناصر الظاهري.
كان تطفلي «الذي أعتقده لطيفاً» نهماً على حياة هذه الشخصيات، ليس فقط عبر ما أفاضوا به علينا من تجلياتهم، وإنما كذلك من خلال ما كنت أفعله قبل الجلسات، من متابعة لقاءاتهم المكتوبة والمرئية، وقراءة أعمالهم وتأمل إنجازاتهم، وقبل ذلك وذاك إعمال «تطفلي» الذهني على البيئة المميزة، التي اختاروها لأنفسهم سواء كانت المادية أو المعنوية، وقد سمحوا لنا وضيوف «مؤسسة بحر الثقافة» بالاطلاع على ذلك، فشاركونا مكنونات عقولهم في الأيام التي قضوها في العزلة، والتي حولوها إلى «خلوة اختيارية»، أبدعوا فيها فألهمونا.