السكان الأصليون في معظم مناطق العالم التي حاولت أن أزورها، كانوا متشابهين، وينحون نحو البدائية الأولى، وعيش الطبيعة كيفما وجدت، ووحدهم من طبعوا المكان بمستلزمات احتياجاتهم، وطرق وقايتهم من الطبيعة في مهادنتها أو غضبها، هم من أثث المكان، وجعل العافية والحياة تدّب فيه بطريقة مختلفة، أشعلوا ناراً هنا، وطافوا حولها، واستدفأوا لهبها، واستساغوا ما حرقت من حيوانات فزعة هاربة، فاصطفوها كمعبود، وأدخلوها إلى كهوفهم الرطبة الباردة.
معظم السكان الأصليين في مختلف الأماكن، يخرجون الماء بطريقة تقليدية، ويحيكون ملابسهم وما يسترهم من برد على آلات خشبية بدائية، غير ذلك هم في العادة حفاة جرد خفاف، لا يستر عوراتهم إلا قليل من قماش أو ليف أو جلد، طرق إعداد الطعام إما شوياً على الحطب أو في فخار أو خبزاً في تنور مبني من الطين والقش، وكأن الإنسان الأول اهتدى لهذه الأشياء مرة واحدة، وبطريقة جماعية، نهارهم يكاد يتمطى من كثر ساعاته، نومهم قليل ومتقطع، يحتسون مشروباتهم الروحية المحلية، والتي اهتدوا إليها بطريق الصدفة، ومما يتخمر من فاكهة وثمار على الشجر، جل التسلية تأتي مع المساء، وحين يُظلم الوقت، فتبدأ سرديات العجائز، وقصص الجدود الشجعان، والصيادين الأقوياء، يكسرون ظلمة ليلهم بالغناء والرقص، بعدها يتحولون إلى ذئاب تنام بعين واحدة، حارسين أكواخهم، ومداخل كهوفهم من أي تهديد أو خطر. والخطر يعرفونه، إما حيوان جائع أو غزو من آخر طامع أو زحف حياة جديدة، تريد أن تقتلعهم مما هم فيه من بساطة، وتسخرهم ليكونوا جزءاً من مفاصل في آلة تدور في المدينة جالبة المال للغني، ومستنزفة قوة الفقير، الزمن وحده يخط للآخرين دروبهم في الحياة، بعضهم عاند، وعاد لائذاً بغابته، بعضهم أغرتهم النعومة وإغواءات العيش السهل، فقد رأيت بعضاً ممن تبقى من إنسان إندونيسيا الأول، يمشي حافياً وسط الغاب، ويأتزر بخرقة غير مخيطة، عار من فوق، ولَم يعرف المستشفى ولا المدرسة، ويتزنر بأدوات حديدية قاطعة للدفاع عن نفسه أو اقتناص صيده، يحمل «موبايل» ويتحدث مع أخيه المتسلق شجرة غاب طويلة، بدلاً من ذلك النداء والصياح الإنساني الأول الذي يتجمع بين الكفين، وينطلق من رئتين متعافيتين، كما أن إنسان استراليا الأصلي تجده بلونه المحروق كخشب أبنوس يستقل سيارته المكيفة وسط العاصمة، فرحاً بأضواء المدينة المترقرقة ماء في عينيه، رأيت كاهنة المعبد لأقوام الهند القدماء، والمتمترسين في غابة بجنوب الهند، تستقل الحافلات العامة، وتراجع حسابها البنكي أول كل شهر، وتعود وفي يدها علب أدوية مما تشكو من هرم وتيبس في المفاصل، إنسان أميركا اللاتينية نزل من علياء الجبل، تاركاً أغانيه هناك، وناي القصب هناك، وحاذى السهل، مكتفياً بأناشيد الحنين إلى هناك، لقد اصطادتهم تلك المدن التي تصهل فجوراً، وهي تدجن إنسان البراري الذي يسابق الريح.