الركون إلى العزلة، ربما يتحول إلى عادة متأصلة في البشر، بعد تجربة الناس مع الجائحة، واكتشافهم نعمة الاختلاء مع الصمت في البيوت، والتروّي في تأمل الذات واكتشاف صفائها الداخلي. هذا الصفاء الذي غيبته ثقافة الركض في الفوضى والغرق في الاستهلاك، إلى درجة أن الفرد وصل إلى قناعة بأنه لا يملك الوقت للتفكّر ولا للقراءة، وأن عليه أن يخوض مع الخائضين، منذ الصباح حتى آخر الليل، جرياً وراء السراب.
يبدو أن هذا المرض، أتاح للبشرية أن تقف للحظات لأخذ نفسٍ عميق وسؤال نفسها: إلى أين نحن ماضون؟ وبدت الحضارة التي يتفاخر بها الإنسان هشّةً وفارغة من الداخل، أمام تفسّخ القيم وانحلال الأسس الأخلاقية المتينة، التي نادى بها الفلاسفة وعلماء الاجتماع. إنها حضارة تتباهى بالشكل على حساب الجوهر، وتهتم بالمادة على حساب الروح. ولذلك تراها تهتزّ وتتداعى بسبب مرض كهذا، إلى درجة أن الدول العظمى المنوط بها صيانة المنجز الحضاري للبشرية، صارت تتراشقُ بالاتهامات في مشهد أشبه بالكوميديا المؤلمة، وكأن الموت كرة تنس، يرسلها هذا، ويردها الثاني هكذا، إلى ما لا نهاية، والناسُ  يتفرجون على هذه اللعبة، ولا يعرفون قوانينها، ومن الفائز فيها حقاً، ومن الخاسر.
أجبرتنا الجائحة على الجلوس إلى الأمسيات الأدبية والثقافية «أونلاين»، وما فقدناه ليس النقاش والطرح الفكري والأدبي، وإنما الحميمية والرفقة والصداقة وحلاوة اللقاء وجهاً لوجه. كان الأدباء يشاركون في الأمسيات ومعارض الكتب، ويحرصون على الحضور في المناسبات الثقافية، ليس بحثاً عن الأفكار، وإنما لرؤية الأصدقاء والمبدعين والجلوس والتحدث إليهم حقيقةً، وليس على الورق، أو على الشبكة فقط. فهل يخسر البشر هذه النعمة والرفقة، ويتحول معظمنا إلى كائنات افتراضية تتحدث من وراء ستار الكاميرا؟ هل ستختفي معارض الكتب وتصبح من تركات الماضي حين يتسيّد الكتاب الإلكتروني؟ هناك بالتأكيد انتقالة كبيرة، تتمخّض الآن على مستوى علاقة الإنسان بالوجود من حوله، وإذا أصبح الفرد الجديد يتسوق، ويقرأ، ويحضر المعارض الفنية، ويتناقش، ويخلّص معاملاته كلها، ويدرس ويعمل من البيت، ماذا سيبقى له في الخارج؟
أيضاً، هذا الانعزال القسري في البيوت، هل يفجّر طاقات الإبداع لمن كانوا يتوقون إلى لحظة الكتابة التي كانوا يحلمون بها؟ وإذا صارت عوالم الناس منزلية طوال اليوم، فهل سنقرأ قريباً روايات لأحداث تدور في الفضاء الإلكتروني؟ بالتأكيد نعم، ولكن كيف ستبدو سحنة أبطالها؟