للمسافرين عادات وطقوس يتبعونها أو هي تتبعهم في أسفارهم، ويشعرون بشيء ينقصهم إن لم تكن من ضمن أولويات ما يحملون في حقائبهم، حتى إن بعضهم يشعرك أنه يحمل في حقيبة سفره «زهبة العروس»، وبعضهم تلقاه «يزاحي» على صدره شنطة كبر «المندوس»، لا يخلي شيئاً ما يحطه فيها، حتى لو سألته إن كان عنده «نشوق»، فسيقول لك: «كل شيء موجود، حتى عدة الحجامة»! وكنت أعجب من أولئك المسافرين الذين يصطحبون معهم كلابهم أو قططهم.. تذكرة، وشهادة صحية، وقفص، وجواز سفر، وحقيبة فيها كل مستلزماته الشخصية وأكله، ونحن الواحد منا «يتم يتعلث، علشان ما يشل معه أحداً من معارفه»، يحب أن يكون خفيفاً، ولا يثقل حركته شيء أو يعيق خطوته أمر، ولو كان أمراً جميلاً مثل زوجته، وبعضهم الآخر يظل يعاني من عدم النوم، ليس بسبب اضطراب الساعة البيولوجية، ولكن لأنه غيّر غرفة نومه أو سريره، لذا بعض من الأغنياء والمشاهير من النجوم، ومحدثي النعمة، قبل أن ينزل في فندق يشترط أن يغيروا ديكور جناحه مثل غرفة نومه، ويحضروا سريراً مثل الذي ينام عليه في بلده، وبعضهم يشترط ألا يشعلوا مصباحاً كهربائياً في غرفته غير الشموع المعطرة والملونة، وأتذكر هنا صديقين، واحداً كان يقول:
«إنه يمكن أن ينام على صخرة، حينما يكون منهكاً تعباً»، أما حال الصديق الآخر، فهذا كان لا يسافر إلا مع مخدته، يقول: «لا يأتيني النوم إلا عليها، ولا يهنأ لي أن أضع رأسي إلا في مكان آمن أعرفه، ويستأنس به رأسي»، هذا الصديق كنت تجده من مطار إلى آخر، وهو «يشالي» بتلك المخدة، يحملها مثلما يحمل رضيعاً، وإن وضعها في الحقيبة أخذت نصفها، أما حالي فهو بين الصديقين، مع فلسفات ناقصة في قراءة المكان، بحيث يمكن أن أنام على الطوى، وأركب في «ركشا»، ولكن لا بد من فندق عالي المستوى، لكي لا يظهر الوسواس الخناس، ولا يجعلني أنام قرير العين ليلتها، لأني سأبحث عن قصص متخيلة في الرأس لهذا الشرشف الذي يبدو مهملاً في الفترة الأخيرة، منذ أن تسلقى عليه ذاك المشعر حتى ظهره، وتلك المخدة التي غدت بائسة حينها، وكأنها تخص لاجئاً في مخيم ظل معزولاً طويلاً، أظل أتحسس مرتبة السرير شاكاً بأن هناك بعض بلل أو رطوبة منسية، والغرفة إن لم تكن تلمع من النظافة، يكون إبليس قد سبقني إليها بغواياته الجاهزة لأناس غير أتقياء عادة.
في المدن الكبيرة الأمور محلولة، لكن السفر إلى المدن الموغلة في التاريخ، مثل تلك المدن التي على طريق الحرير، المشهورة بـ«خاناتها»، والتي نسيها الناس في غمرة المعاصر، وما برحت تدق بوابة الذاكرة الجماعية عند أناس مخلصين للحكايات، وسرديات المساء، هي مدن تختلف، وما برحت تعيش بساطتها، ولا تحب أن تتنازل عن عفاف فقرها، فتلزمك لأنك تحبها أن تتخلى عن متطلباتك المرفهة، ووساوسك الصحية، ودلع خمسينيات العمر، ولو كان جيبك عامراً، فأحياناً لا قيمة للمال، إنه مجرد ورق مصقول، ولا يمكنه أن يجلب لك غرفة فندقية من التي تشعرك، وكأنك متقاعد جديد عن طيب خاطر، تسمع هسيس القطن الأبيض الأصلي لأي تحرك أو تقلب منك على سريرها، تحضر لك برودة المفارش شيئاً يستطيبه أنفك مثل رائحة عطر أنثوي أو ثوب فتاة تحبها، وتعرف كيف تخبئ لك شيئاً منه في أماكن تغفل عنها.. وغداً نكمل.