منذ أن نبت زغب القطا على محيا ابنك، لم يعد مجالاً لتقصي ما يحدث في غرفته المغلقة، ولم تعد أنت ذلك الأب الذي كان في زمن ما يضع هذا المراهق طفلاً يتغذى على عاطفة الأبوة، فكل شيء يتغير لمجرد أن تنمو الشعيرات الرهيفة في الوجنة المتطلعة إلى خروج من الشرنقة.
اليوم، ولربما هي صدفة الجانحة أودت بذلك النبوغ الشبابي، وعطلت من سرعة عجلات العربة، وخففت من صفير الرياح، وأجهضت الكثير من النفير اليومي.
اليوم تسنى لك أن تتأمل هذا الوجه، وتقرأ صفحته بتأنٍ وتريث، وتشعر أنك عدت ذلك الأب الذي يقترب من فلذة الكبد، ويحصي عدد أيام العمر، ويجلي عن كاهله الإحساس بالفراغ المهيب.
اليوم تقترب كثيراً، أو بالأحرى هو يقترب منك، وتشم رائحة الشباب في ثوبه، وتتذوق طعم القبلة على خده، كما تشعر بخفة قبلته على رأسك، ورفرفتها بأجنحة العودة بسلام، وكأنها الطير الذي عاد لعشه بعد مديد من الغربة.
اليوم يخفق قلبك، كأنه جناح فراشة مطاردة، وتقترب كثيراً من موقد النار، وتدفئ يديك إثر برودة الفجوة، والجفوة، اليوم تشعر أنك تستعيد زمانك، وتستدعي صوراً بعيدة المدى، وتقربها من عينيك، فتدمع المقلتان، وتغشيك قارعة تهز وجدانك من الفروع حتى الجذور، وترتعد أغصان الشجرة القديمة، وبعض أوراق بائسة تسقط، وتتكئ أنت على منسأة الذاكرة، تأتيك صورة ذلك الطفل الذي ناغيته، ولاعبته، واتشحت مشاعرك، بأسوار الفرح عندما كان يتشبث بثيابك، ويقول بصوت أشبه بالنشيد الأممي أبي.. أبي، فتتسع مخيلتك ويسفر لبك عن فرح بحجم الورى، وتكبر في نفسك هذه الأغنية الطفولية، وتبدو في الوجود ناياً يدوزن لحن الوجود، بكلمات قد لا تستطيع الآن نطقها، لأنك كبرت، وكبر ابنك، صارت الشعيرات كثة لدرجة أنها تحجب عنه رؤية ما تكابده، وتمنعك عن لمس لحيته الكثة.
اليوم أنت في الفرح كأنك الموجة تدغدغها الريح، وتسهب في مداعبتها، اليوم أنت تقف فقط لتتأمل الوجه الموشح بسجايا السحابات المبللة بالرحيق، ولا تكف عن الإمعان في النظر، لأنك في الأشواق، قصيدة مكللة بقافية العشق، مجللة ببحر الرمل، مبهاة بالوزن الرصين.
لأنك اليوم رغم الغيمة الداكنة التي تعم العالم، تشعر أن رب ضارة نافعة، فهبت رياح الشمال، لتذرو عن وجهك الغبار، وتمنحك فرصة اللقاء من دون عجالة، أو ضجر.
اليوم أنت كائن يتخلق من جديد، ويبني عشه من خيوط الحرير، وينام على وسادة قطنها من أنفاس هذا الكائن الذي تعشقه إلى حد الدنف، وتهفو إليه إلى حد التشظي.
اليوم أنت تغرق في فنجان القهوة، وفي قاعها تسكن صورة هذا الفائض بالدفء.