الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صورتنا التي بقيت في الاستوديو

صورتنا التي بقيت في الاستوديو
28 أكتوبر 2011 22:20
ما إن وضعت قدمي في المطار حتى تنحّيت جانباً ووضعت نقوداً في الجيب العلوي لقميصي، فهذا مطار يبتسم فيه موظف الجوازات وهو يتسلّم جواز سفرك ويقول: حمداً لله على السلامة، فإذا قلت: الله يسلمك يا صديقي.. كيف حال الأهل؟ فإنه يرد وهو يضع جواز سفرك جانباً: حمداً لله على السلامة، فإن لم تفهم، فإنه يقول لك وهو يشير للمسافر التالي: طيب، انتظر هنا إلى أن تعرف الإجابة. لكن هذا السيناريو لم يحدث، وخرجت من المطار وأنا أعيد نقودي إلى محفظتي. بعد الوصول إلى الفندق، قررنا الخروج للاستفادة من كل دقيقة، وبمجرد تجاوزنا عتبة مخرج الفندق، توقفت سيارة تاكسي أمامنا وسألنا صاحبها عن أجرة التوصيل إلى المتحف، فأصرّ على أن نركب والله كريم. طويتُ عربة طفلي ووضعتها في صندوق السيارة، وفعل عديلي مثلي، وتراصصنا مع زوجتينا وعيالنا في السيارة. سار بنا الرجل مسافة ليست بالقصيرة، وعبرنا أحياء عدة، وكان عديلي يجلس بمفرده على العرش الأمامي، وأنا أجلس مختنقاً و(...) طفلي في وجهي. أمام المتحف، أصرّ السائق على أن الأجرة لا تتناسب وبُعد المسافة، فأعطيناه ما طلب. وفي المتحف، وبدلاً من أن نقول «واو» أمام القطع الأثرية النادرة، كنا نقول «أف»، ففي كل ممر هناك من يعرض خدمات التعريف بالآثار. وعند خروجنا سألنا الحارس عن الأجرة المعقولة للتوصيل، فاستدار فجأة وأشار بيده نحو فندقنا وهو يكتم ضحكاته، فالمتحف يقع مباشرة خلف فندقنا، ولو كنا نقيم في غرفه الخلفية لرأينا المتحف قابعاً في الأسفل. في حديقة الحيوانات كانت الأسود والنمور والضباع متعجبة منا، فنحن لا نعيرها اهتماماً، لأن رجلاً يعلق كاميرا في رقبته يمشي معنا كأنه واحد منا منذ أن دخلنا إلى أن خرجنا يعرض علينا التقاط صور تذكارية، ونحن نقول له مرة بالابتسامة، ومرة بالوجوم، ومرة بالغضب: ألا ترى الكاميرات الثلاث التي نحملها معنا؟ فيرد في كل الحالات بهدوء عجيب: الصورة بعشرين فقط. في المساء اتفقت مع عديلي على الذهاب إلى السينما من دون بقية أفراد القبيلة، وفي الطريق كانت السيارات تمر بمحاذاتنا بسرعة، والحمير على جانبي الطريق تتجاوزنا بسرعة أقل، فطلبنا من السائق الإسراع قليلاً، فردّ وهو يشير إلى العدّاد: ألا تكفي سرعة الـ120 كلم/ ساعة؟ وفعلاً المؤشر كان يداعب الرقم 120، لكن ربما كانت 120 كلم/ في السنة. أمام السينما وفي أثناء دفع الأجرة، لاحظتُ أن المؤشر ثابت عند الرقم 120، فقال بعد أن رمى يمين الطلاق بأن المؤشر يتوقف على آخر سرعة. لكن لو حضر آينشتاين بنفسه ليقنعه بأن آخر سرعة هي 1 كلم/ساعة، أي ما قبل التوقف النهائي، لما اقتنع. وكان الفيلم من أفلام المقاولات العامة، وقررنا الخروج، لكن رجل أمن طويل عريض اعترض طريقنا، فالخروج ممنوع أثناء العرض لأسباب أمنية، فقد يزرع أحدهم قنبلة ويغادر القاعة، فقلنا له: لم لا تفتشون الجمهور قبل الدخول أصلاً؟ وماذا ستفعلون فيمن يتحزّم بالديناميت ولا يخرج من القاعة إلا أشلاءً على شكل نقانق؟ ويبدو أنه اقتنع بكلامنا لكنه طلب هوياتنا، ولم نكن نحملها في تلك اللحظة، ففكّر قليلاً ثم طلب تذاكر الدخول، فأعطيناه إياها ونظر إليها وهو يقطب حاجبيه ثم سمح لنا بالمغادرة، كأنّ أسماءنا وبياناتنا مدونة على التذكرة وسيتم استدعاؤنا بموجبها إذا انفجرت القاعة. عند العودة اتفقنا مع سائق سيارة أجرة رابضة أمام الفندق ليكون هو سائقنا الدائم، صحيح أن أجرته أعلى، لكنه لن يلف بنا في الشوارع ليوصلنا في النهاية إلى وجهتنا خلف الفندق، ولن نركب على ظهر سلحفاة تحلف لنا بأنها حصان. خرجتُ في الصباح قبلهم وطلبت من السائق «المضمون» توصيلي إلى المكتبة، وفي الطريق ذكرت له ما حصل لنا في اليوم السابق، فاعتذر وتأسّف وقال: امسحها في وجهي، ثم أجرى مكالمة سريعة وأخذ يسير في أقصى اليمين ببطء شديد وكاد أن يتوقف تماماً، بينما امرأة سمينة تصعد معنا وتبكي وهي تقول إن العيادة ترفض خروج طفلها المريض ما لم يدفعوا مصاريف العلاج. وللحظات توقف المشهد: المرأة تولول، والسائق ينظر إليّ، وأنا أنظر إليه. وحين طال المشهد، أخرجت بعض النقود وأعطيتها المرأة التي نزلت وهي تدعو لي والسائق يلعنها وأنا أقول لنفسي: يا لك من مغفل. لم أخبر جماعتي بما حصل؛ لأنني فقدت الأمل في العثور على سائق لا يلف ولا يدور إلا بالتي هي أحسن، وطلبنا منه توصيلنا إلى منطقة أثرية مشهورة. وبوصولنا إلى هناك عرفت القضية، فقد خرج أحد أصحاب عربات الركشة، وهي العربات التي تجرّها الخيول، وأخذ سائقنا بالأحضان، فأوصاه بأن يعاملنا بطريقة واضحة لأننا تعرضنا في اليوم السابق لكذا وكذا. وفعلاً كان الرجل واضحاً، إذ عرض علينا عدة جولات اخترنا واحدة منها، ودفعنا تكاليفها بالكامل قبل الانطلاق، وانتقى المعلم عربتين بنفسه وطلب من قائديهما الاهتمام بنا جيداً. وبدأ الاهتمام يظهر أمام مدخل المنطقة الأثرية، فقائد الركشة طلب منا دفع تذكرة الدخول، فرفعت صوتي عالياً حتى يسمعني الموتى النائمون في هذه المقابر، وليسمعني عديلي الذي كان يستسلم بسرعة أمام الاستغفال، فيكون عدم استسلامي دليلاً على سوء خُلقي. ويبدو أن الحصان وصاحبه عرفا أنني مستعد للاستشهاد في سبيل منع معاملتي كأنني حمار، فتوقف عن المطالبة ودخلنا المنطقة الأثرية آمنين. أصبح الجو مكهرباً، فعديلي يجلس في عربته مع زوجته وعياله لا يعرف ماذا يفعل، فإن أظهر استمتاعه فإنهم يبدؤون فوراً في وضع البَرْدَعة على ظهره، وإن بدا عليه الغضب مثلي، أفسد الرحلة بالصراخ كما كنت أفعل، فقد صرخت في أذن قائد العربة لأنني كنت أطلب منه عدم التوقف أمام بائع المشروبات الغازية، وصرخت في وجه البائع لأنني رفضت شراء أي شيء منه، بينما هو يفتح زجاجة مشروب غازي ويناولها طفلي، وصرخت أمام كاميرا المصوّر الذي كان يصوّرنا رغماً عنا ثم يقدم لي إيصال تسلم الصورة، وبالطبع كنت غاضباً من زوجتي لأنني تزوجتها، ومن طفلي لأنني أنجبته، ومن عديلي لأنه أصبح عديلي، ولم أنسَ أن أصبّ اللعنات على عظام الموتى الذين قطعنا آلاف الأميال لرؤية قبورهم. وعند الوصول إلى مخرج المنطقة الأثرية، جاءني شخص وهو يحمل الصورة التي أُخذت لنا ونحن في العربة، فنظرت إليها فإذا فمي مفتوح مثل النمر الغاضب ويدي مرفوعة في الهواء كأنني على وشك صفع أحدهم، وكان واضحاً أنني خارج عن طوري، فقلتُ له وأنا أعيد الصورة إليه: خذها وعلّقها في الاستوديو عندك. أحمد أميري me@ahmedamiri.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©