السبت 4 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

إعلان أبوظبي.. مسار التغيير

إعلان أبوظبي.. مسار التغيير
14 فبراير 2019 01:11

هل غيّرت الإمارات العربية المتحدة خلال الأيام القليلة الماضية، تلك التي شهدت زيارة بابا الكنيسة الكاثوليكية، وشيخ الأزهر، مساقات التاريخ القديم والجديد على حد سواء؟ يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، إذ أضحت الإنسانية على موعد مع مرحلة مغايرة من التآخي الإنساني، بعد نحو أكثر من خمسة عقود على دعوات حوار الأديان التي انطلقت في المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني العام 1965، الأمر الذي تبلور بشكل واضح للعيان في «وثيقة الأخوة الإنسانية»، التي تدفع العالم في أطر ثورية إن جاز التعبير، تجاه كل ما هو إنساني خلاّق.

على أن حلم الأخوة الإنسانية الذي نحن بصدده لم يكن ليتحقق من خلال جمع قادة الأديان من العالم برمته، مسيحيين ومسلمين، بوذيين ويهود، وفي حضور بابا الكنيسة الكاثوليكية وشيخ الأزهر، إن لم تكن هناك حاضنة دولية، لديها من الرغبة والمقدرة الكثير من أجل إعادة بناء التاريخ المعاصر، بلغة إنسانية راقية تخدم الأجيال القادمة بنوع خاص.
أشرعت الإمارات فرص الأمل والعمل من أجل فتح دروب السلام والتسامح للإنسانية برمتها منذ اليوم الأول لإعلان المؤسس زايد الخير، قيام دولة الإمارات العربية المتحدة، وما يزال «عيال زايد»، كما أسماهم البابا فرنسيس في رسالته قبل الوصول إلى الإمارات ماضين على الطريق عينه. ولاشك أن تجربة الإمارات الملهمة هي التي أضفت مصداقية خاصة على احتضان «إعلان أبوظبي»، ولاسيما أن القول يطابق الفعل.

الآخر حوار أم أخوة؟
ما الذي غيرته زيارة الشيخ والبابا في مفهوم العلاقة بين أتباع الأديان، من خلال مؤتمر الأخوة، والكلمات التي ألقاها البابا والشيخ، وكذا ما يتضح جلياً عبر الوثيقة التي باتت منطلقاً لعالم آخر مغاير؟
بداية وللتأصيل الفكري والتاريخي يلزمنا الرجوع إلى الوثيقة الصادرة في السابع عشر من ديسمبر عام 1965، والتي هي «بيان حول علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية»، والتي اعتبرت فجراً جديداً للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وتعرف باسم وثيقة «في حاضرات أيامنا» NOSTRA AETATE.
في الوثيقة نقرأ في إشارة إلى العالمين العربي والإسلامي أنه: «إذا كانت قد نشأت على مر القرون، نزاعات وعداوات كثيرة، بين المسيحيين والمسلمين، فالمجمع المقدس يحض الجميع على نسيان الماضي والانصراف بإخلاص إلى التفاهم المتبادل»، ومن هنا ولد مفهوم الحوار والجوار، بين أتباع الأديان.
لكن مؤتمر أبوظبي أرسى لعالم آخر يتجاوز الحوار إلى الأخوة الإنسانية، فقد ولّد رغبة في شجب كل تفرقة أو جور يلحق بالبشر بسبب عرقهم أو لونهم أو ديانتهم.
فمنذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، وروح التعصب والتمذهب تقف وراء العديد من السياسات التي أثرت على العالم، وولّدت الكثير من الحروب والمآسي وما تزال. وبالنظر إلى حال ومآل العالم بعد عقدين من الزمن، نجد أن هناك عودة مقلقة للقوميات والشوفينيات، للعصبيات الغربية، ويكاد الناظر يرى الشعبويات تعود بالنازية والفاشية من جديد، وفي الشرق أصوليات وراديكاليات تذهب بما تبقى من أمن وأمان، بعيداً جداً.

سلام بين الأديان
يعد السويسري «هانز كنج» أحد أفضل المفكرين واللاهوتيين الكاثوليك حول العالم في العقود الماضية، وهو صاحب مشروع الأخلاق العالمية، وهو من وضع أيدينا على حتمية العلاقة بين الأديان وبين السلام العالمي، وقد أطلق الرجل صيحته الشهيرة أنه «لا سلام بين الأمم، إذا لم يكن هناك سلام بين الأديان».
ومن هذا المنطلق فإن مؤتمر الأخوة الإنسانية، استشرف وبحق أنه من الضروري في عصر كهذا، أن يتم دعم عولمة الاقتصاد، والتكنولوجيا والاتصالات، والسياسة بمعايير الأخوة الإنسانية، تلك التي تتجاوز عقبات الجغرافيا، وأزمات الديموغرافيا.
لقد رأت العقول المنظمة للمؤتمر أن الأديان والثقافات، تستطيع بالتفاعل البناء مع أصحاب النية الحسنة كافة، المساعدة في تحاشي مثل هذا التصادم. وعليه فقد جاء مؤتمر الأخوة الإنسانية ليفتح أعيننا على أنه لا سلام بين الأمم إلا في سلام بين الأديان، ولا بقاء لكرتنا الأرضية في سلام وعدل إلا في ضوء رؤية لزعماء الأديان، تخلص إلى وثيقة عالمية عصرانية، وهذا ما كان.

رؤية فرنسيس
تحتاج كلمة البابا فرنسيس خلال اللقاء العالمي للأخوة الإنسانية قراءة معمقة قائمة بذاتها، لما فيها من محطات تاريخية لرجل دين يسعى لنشر سلام حول العالم، وسلام بين الأديان.
يجذّر فرنسيس للعلاقة بين الإنسان والخالق، والإنسان ولإنسان، التي من دونها لا تقوم أخوة، ولا تنطلق مسيرة أخوية.
ورؤية فرنسيس تكشف في العالم المعاصر مخاطر منطق الحروب المهلكة للزرع والضرع، وللعنف الحلزوني الذي لا ينفك يفسد العالم، في حين أن الخالق لا ينظر إلى العائلة البشرية بنظرة تمييز تستثني، وإنما بنظرة محبة تدمج، ولذلك تأتي أهمية الاعتراف بالحقوق عينها لكل كائن بشري.
يبقى العنف والإرهاب ضدين مطلقين للسلام وللأخوة البشرية، ولهذا ينافح فرنسيس رافضاً ومن دون تردد كل أشكال العنف، لاسيما ذاك الذي يتدثر ويتخبأ في أغطية الأديان، لأن استعمال اسم الدين لتبرير الكراهية والبطش ضد الأخ، إنما هو تشويه خطير لاسم الدين، فلا وجود لعنف يمكن تبريره دينياً.
ويضعنا فرنسيس أمام منحنيات تاريخية تحتاج للإفاضة في السرد، فعداوة الأخوة هي النزعة الفردانية، التي تترجم في عزيمة تأكيد الذات والمجموعة الخاصة على حساب الآخرين، وهو فخ يهدد جميع جوانب الحياة. فرنسيس الذي قال إنه ذاهب إلى الإمارات «كأخ»، يرى أن الأخوة تعبر بالتأكيد أيضاً عن التنوع والاختلاف الموجودين بين الإخوة، والتعدد الديني هو تعبير عن ذلك، والحرية الدينية هي حق لكل شخص، كل واحد يتمتع بحرية المعتقد والفكر والتعبير والعمل، ويؤمن بأن التعددية وتنوع الدين، واللون والجنس والعرق واللغة، هي إرادة إلهية حكيمة، خلق من خلالها الله الكائنات البشرية. وهذه الحكمة الإلهية هي المصدر الذي ينبع منه الحق في حرية المعتقد وحرية كوننا مختلفين.
ويقودنا إلى طرح الاستثمار في الثقافة الذي يعزز انحسار الحقد وينمي الحضارة والازدهار، وينبه إلى أن الشباب الذين غالباً ما تحيط بهم رسائل سلبية وأنباء مزيفة، غالباً ما يحتاجون إلى أن يتعلموا عدم الاستسلام لإغراءات المادية والكراهية، والأحكام المسبقة.

الإنسانية المأزومة
لم يكن لمؤتمر الأخوة الإنسانية أن يرتفع من على الأرض إلا بالجناح الثاني، شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، والذي فتح عيون الحضور على صراعات عالمنا المعاصر، وعلى أزمة اختطاف الفكر الديني من قبل المتشددين والمتطرفين، شرقاً وغرباً.
الشيخ الطيب كان لابد له من تحليل أبعاد المشهد الإيماني والإنساني الذي خلق واقعاً مأزوماً لاسيما بعد 2001، ذاك الذي دفع الإسلام والمسلمون ثمناً غالياً من جراء حادثته الأشهر في نيويورك وواشنطن، وأخذ فيها مليار ونصف مليار مسلم بجريرة أفراد لا يزيد عددهم على عدد أصابع اليدين، وتالياً استغلت سلبياً في إغراء «الإعلام» الدولي بإظهار الإسلام في صورة الدين المتعطش لسفك الدماء، وتصوير المسلمين في صورة «متوحشين»!
في خطابه أمام مؤتمر الأخوة الإنسانية، أعطى الشيخ الطيب من خلال سرد الأحداث، نموذجاً صادقاً حقيقياً بشأن الأخوة، وذلك من خلال الإشارة إلى العلاقة التي تربطه بالبابا فرنسيس، وكيف ولدت فكرة «وثيقة الأخوة».
والأديان الإلهية، عند الشيخ الطيب، بريئة كل البراءة من الحركات والجماعات التي توصف بـ«الإرهاب»، كائناً ما كان دينها أو عقيدتها أو فكرها، أو ضحاياها، أو الأرض التي تمارس عليها جرائمها النكراء.
ويرسخ شيخ الأزهر أخوة حقيقية لا دعائية، عندما يوجه كلمته إلى مسلمي الشرق، ويطالبهم بالاستمرار في احتضان إخوانهم المسيحيين في كل مكان، فهم شركاء الوطن، وإخوتهم بحسب النص القرآني. وينادي من يصفهم بـ«إخوته، مسيحيي الشرق»، ويوجه إليهم خطاباً راقياً إنسانياً، خطاب مواطنة، لا ذمية، وفيه: «أنتم جزء من هذه الأمة، وأنتم مواطنون، ولستم أقلية، وأرجوكم أن تتخلصوا من ثقافة مصطلح الأقلية الكريه».

اليوتوبيا هنا
هل يمكن اعتبار وثيقة «الأخوة الإنسانية» التي صدرت الأيام القليلة الماضية من أبوظبي النسخة الأحدث في مسار الحلم الإنساني الكبير؟
يمكن القطع بأن جذور التأصيل الفكري والإيماني لهذه الوثيقة قد تبدت في السطور الثلاثة الأولى، وفيها أن: «الإيمان يحمل المؤمن على أن يرى في الآخر أخاً له، عليه أن يؤازره ويحبه، وانطلاقاً من الإيمان بالله الذي خلق الناس جميعاً وخلق الكون والخلائق وساوى بينهم برحمته، فإن المؤمن مدعو للتعبير عن هذه الأخوةالإنسانية بالاعتناء بالخليقة وبالكون كله، وبتقديم العون لكل إنسان، لاسيما الضعفاء منهم والأشخاص الأكثر حاجة وعوزاً».
هي إذن ليست وثيقة مجمعية كنسية كسابقتها، ولا وثيقة إسلامية مثل «المواطنة» التي صدرت عن الأزهر الشريف، قبل بضعة أعوام، إنها مسار إنساني لكافة الخليقة، رسم خطوطه الفاتيكان والأزهر الشريف، برعاية من دولة الإمارات، وتحت سمائها.
وما يميز «وثيقة الأخوة» عن سائر الوثائق والنداءات المشابهة أمران:
الأول: إننا أمام دور لرجال الدين والأديان مغاير لأدوار تاريخية كانت فيها أحياناً أدوات للتفرقة بدلاً من التجميع ولمّ الشتات المتفرق.
والثاني: إن مجال المناداة بها، لا يتوقف عند حدود الكنائس والمساجد، والمطالبون بتفعيلها ليسوا القساوسة أو الشيوخ فقط، إنها تتجاوز ضيق الأيديولوجيا، إلى رحابة الإبستمولوجيا، فهي تتوجه للمفكرين والفلاسفة، لرجال الدين والفنانين، للإعلاميين والمبدعين، في كل مكان، ليعيدوا اكتشاف قيم السلام والعدل، الخير والجمال.
ووثيقة أبوظبي، وهي تعتمد كل ما سبقها من وثائق عالمية، تنبه إلى الأمر الذي أشرنا إليه عند «هانز كنج»، أي ما للأديان من دور مهم في بناء السلام العالمي، وعليه تؤكد القناعة الراسخة بأن التعاليم الصحيحة للأديان تدعو إلى التمسك بقيم السلام وإعلاء قيم التعارف المتبادل والأخوة الإنسانية والعيش المشترك، وتكريس الحكمة والعدل والإحسان، وإيقاظ نزعة التدين لدى النشء والشباب لحماية الأجيال الجديدة من سيطرة الفكر المادي، ومن خطر سياسات التربح الأعمى، واللامبالاة القائمة على قانون القوة لا على قوة القانون.

انعكاسات الوثيقة
لا يمكن لأي صاحب نظرة موضوعية عادلة أن يغفل الاستحقاقات التاريخية الإيجابية للزيارة والمؤتمر والوثيقة على العالم الإسلامي، وقد بدا أن هناك صورة إيجابية مغايرة نجحت الإمارات في رسمها للإسلام والمسلمين وهي صورة إيجابية بكل المقاييس، بخلاف الكثير جداً من الصور الزائفة المنتشرة حول العالم، لاسيما في سياقات ظاهرة «الإسلاموفوبيا» أو الرهاب من الإسلام. وفي مطار أبوظبي الدولي كان العناق الحار بين البابا والشيخ، صورة، أبلغ، بل أنفع وأرفع، من مئات ملايين الدولارات التي كان لها أن تنفق، من أجل إعطاء ملامح للإسلام السمح المعتدل، المحب، الباذل، القابل للآخر، وليس إسلام «الفئة الضالة أو المغيبة». ولاشك أن مَن سيقدر لهم في العالم الغربي قراءة أحداث وأوراق زيارة البابا والشيخ حكماً سيرون رؤية المسلمين الصحيحة المتسامحة، بعيداً عن سرديات جماعات العنف والتطرف. رؤية حكيمة جعلت قادة الإمارات العربية المتحدة يفتحون قلوبهم وعقولهم، قبل أن يفتحوا مدينة «زايد الرياضية» لإقامة أول قداس كاثوليكي على أرض الجزيرة العربية، وهذه هي روح التسامح التي تمثل الإسلام وأرقى معاني الأخوة الإنسانية.

بيت العائلة الإبراهيمية
إن المسيرة قد انطلقت للتو، وفي حاجة إلى زخم إنساني كبير للمضي قدماً إلى الأمام، وهذا ما استشرفه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الذي أمر بتخصيص مساحة أرض في جزيرة «السعديات» لتشييد معلم حضاري جديد، يطلق عليه اسم «بيت العائلة الإبراهيمية»، ويرمز إلى «حالة التعايش السلمي، وواقع التآخي الإنساني الذي تعيشه مختلف الأعراق والجنسيات من العقائد والأديان المتعددة في مجتمع الإمارات».
«بيت العائلة الإبراهيمية»، مرشح بالفعل لأن يضحى بمثابة مدينة فوق جبل الإمارات، مدينة تنير للعالم بأضواء المودات والتسامح، ويأمل المرء أن يتحول إلى قبلة فكرية ينطلق منها كل عام مؤتمر دولي يرعى التسامح الإنساني الخلاق، بالضبط مثل قمة دافوس التي تراعي المصالح الاقتصادية والمالية لزعماء العالم.
بيت العائلة الإبراهيمية منوط به في قادم الأيام نقل روح وثيقة الأخوة إلى كل قارات الأرض، وبالتعاون مع أصحاب النوايا الصالحة، والطوايا الخيرة، الخيّرين والمغيّرين، لاسيما بالتعاطي مع كاثوليك يبلغ تعدادهم نحو مليار وثلاثمائة مليون حول العالم، فما جرى في الإمارات هو إيقاد سراج منير، ولا أحد يوقد مصباحاً ويضعه تحت المكيال.
حقبة جديدة أعلنت الإمارات عن مولدها، هدفها إيقاظ الضمير العالمي، لوقف مآسي الإنسانية المعاصرة، حقبة سيكون للإمارات فيها نصيب كبير من إعادة صياغة رسم معالم وملامح السياسات الدولية، وإعادة بناء الصورة الإسلامية، والوساطة الخلاقة شرقاً وغرباً.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©