الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عبد العزيز أبو غزالة: البتراء علَّمَتْني النّحت

عبد العزيز أبو غزالة: البتراء علَّمَتْني النّحت
28 ابريل 2005

عمّان - يوسف عبد العزيز:
كاهن الكهف، البدائي، المتمرّد· ربما كانت هذه الكلمات هي الأكثر ملاءَمة لوصف النّحات والتشكيلي (عبد العزيز أبو غزالة) الذي فاجأ الأوساط الثقافية الأردنية والعربيّة بمجموعة متميّزة من الأعمال النحتية في السنوات القليلة الماضية·
ضَجِرَ مبكّراً من المدينة وقرّر الهرب إلى البتراء ليعيش قريباً من روح الأسطورة، وليتعلّم النحت على يد أسلافه الغابرين من الأنباط الذين عالجوا روح الصّخر·
أنشأ (محترَف الرمال) في عمّان ليكون بمثابة معتزَل ومكان برّي يتعانق فيه الشعر والموسيقى والتشكيل· وليكون بمثابة تعويض عن تلك المغارة الأولى مغارة الطفولة التي شكّل فيها تمثاله الأول·
؟ كيف التقيتَ بالحجر؟ ماذا عن لحظة الاشتباك الأولى مع هذا الكائن الصّامت المتجهّم الأعزل؟
؟؟ لا أذكر متى التقيتُ أوّل مرة بالحجر، ولكنّ الذي أذكره هو بيت الطفولة القديم الذي نشأتُ فيه في أحد أحياء عمان· كان كلّ شيء فيه يبعث على الدهشة: جدرانه السميكة، حجارته المكسوّة بالطحالب، ثم تلك المغارة القريبة· كانت المغارة تسرقني لساعات طويلة· كنت مبهوراً بإضاءة الشمس الخفيفة وبالظلال العجيبة التي تتشكّل· أذكر أنني جمعت شيئاً من الكِلس ومزجته بالماء ·· ومن تلك الطينة شكّلت التمثال الأول· كان التمثال على هيئة رجل صامت يجلس القرفصاء ويضع يده تحت رأسه· فيما بعد أقمتُ صداقات أخرى مع الحجارة وأنجزت تماثيل جديدة· ثم صرت أنحت أشكالاً على جدران المغارة، هذه الحالة سبّبَتْ الضّجر للأهل وجعلت والدي يحطّم تماثيلي· لكنّ الأم وقفت إلى جانبي وكانت تبدي إعجابها بما أفعل· هي كانت فنانة من نوع خاص· كانت طيلة الوقت مشغولة بمطرزاتها المدهشة وبأشتال الورود التي تزرعها· لقد بثّت فيّ روح الجمال وكانت سبباً في ولادتي الفنية·
أواخر الثمانينيّات درستُ الفن التشكيلي في معهد الفنون الجميلة في عمّان ثم سافرت إلى مدينة فينيسيا لأتخصّصَ في النحت، حيث تشكّلتْ لديّ علاقة أخرى مع الحجر· زرت المتاحف في فلورنسا وميلانو وغيرهما· وتلمّست عن كثب أعمال مايكل أنجلو وليوناردو دافينشي، وامتلأ رأسي بمشاريع كثيرة·
روح البتراء
؟ عشتَ في مدينة البتراء مدة سبع سنوات، هل مثّلَ الذهاب إليها شيئاً من الحل؟ بماذا خرجتَ من هذه التجربة؟
؟؟ حين عدتُ إلى عمّان انتابتني غربة كاسحة، وصرت أفكّر في الهروب من المدينة واللجوء إلى مكان برّي بعيد أعتزل فيه وأبدع· كان خياري يومها أن أعيش في البتراء· ذهبت إلى تلك المدينة الوردية وأقمت فيها مدّة سبع سنوات· لقد أغنت هذه الإقامة تجربتي· مبهوراً كنت أتأمّل ذلك المكان المحتشد بالتشكيل ·· الصخور بانحناءاتها وألوانها كانت أعمالاً ساحرة· المنحوتات والبيوت الغائرة في الصخر أشعلَتْ فيَّ روحَ المغامرة· لقد وجدت في البتراء ضالتي، لقد كانت بالنسبة ليّ بمثابة كهف آخر ولكنه هذه المرة هائل ومدهش·
البتراء علّمَتني النحت وتركَتْ تأثيرها على أعمالي، سواء بما يتعلق ببنية هذه الأعمال المستمَدّة في الغالب من إيقاعات أسطورية، أو بما يتعلق بالنواحي الجمالية، وحجم الكتل المستخدمة· اكتشفت على سبيل المثال أنّ الكتل الصغيرة لا تُشبع نهمي، ولذلك رحتُ أنحت تماثيل ضخمة تحاكي روح البتراء العظيمة· من جهة أخرى أصبح العمل الواحد عندي يتشكّل من عدة قطع· كأنّ هناك تمثالاً انشرخ وتشظّى· هذه الفكرة بالذّات أخذتها من صخور البتراء التي شهدَتْ مثل هذه التّشظّي بمرور الزمن·
الفراغ كبعد للمنحوتة
؟ ماذا أنجزتَ حتى الآن من مشاريع؟ ما هي الثّيمة الرئيسة التي تقوم عليها مشاغلك؟
؟؟ لدي مجموعة من الأعمال النّصبية في كل من الأردن، لبنان، سوريا، مصر، دبي، فرنسا، كندا، استراليا، بريطانيا، ألمانيا·
في عمّان مثلاً اشتغلت على الحجر الصحراوي، وأنجزت منه منحوتة ضخمة عام 2002 (معروضة في جبل اللويبدة)، وهي عبارة عن كتلتين: الكبيرة بارتفاع أربعة أمتار والصغيرة بارتفاع متر ونصف المتر· عام 2003 ذهبت إلى إهدن في شمال لبنان وأنجزت عملاً نحتياً من ثلاث قطع، اعتمدت فيه على حجر (كرارة)· في دبي لدي عمل معدني مكوّن من قطعتين كبيرتين··· بالإضافة إلى الحجر والمعدن فأنا أشتغل أيضاً على الطين الذي أجد فيه مسرّة خاصة كونه مادة الخَلق الأولى· مؤخّراً اهتديت إلى الخشب، ونفّذت مجموعة من الأعمال الخشبية· وعلى الرغم من حبي وتقديري لطاقة الحجر فقد وجدت في الخشب طاقة جديدة ومختلفة· ذلك أن الخشب يحتمل القوة والليونة ويشعرني أكثر بروح المادة·
في هذه الأعمال وغيرها تستهويني فكرة الفراغ باعتباره بعداً جديداً للمنحوتة· غالباً ما أفتح في العمل كوّةً أو دهليزاً· ألجأ في بعض الأحيان إلى توزيع العمل إلى عدة قطع بحيث تتعانق هذه القطع مع الفراغات المتروكة حولها· الفراغ ربما يعني لي الزمن المكثف السائل، ربما كان بمثابة ماء لهذه الأعمال التي أنحتها من أجل أن تسبح وتتشكّل·
؟ ماذا عن طقوسك الخاصة في النحت؟ كيف تنبتُ الفكرة في رأسك لعمل منحوتة؟ كيف تختار الحجر؟ ثمّ كيف تقيم حوارك معه؟
؟؟ اللقاء الأول مع الحجر هو بمثابة لقاء مع شخص غريب أراه للمرة الأولى· ولذلك أحسّ بالحاجة إلى اكتشافه كما يُمكن أن يحس هو بالحاجة إلى اكتشافي· ثمة علاقة جدلية تنشأ بيننا وتتطور إلى ما يشبه الصراع· قد يسفر هذا الصراع عن منحوتة أو لا يسفر عن شيء· بالنسبة للفكرة فهي مرهونة باللحظة، وهي غير مرسومة أو مخطّطة· قبل أن أبدأ بالعمل أقضي وقتاً كافياً في المكان الجديد قد يمتد إلى عدة أيّام، لأتعرف على المحيط والبيئة· أتحدّث مع الناس أيضاً، أجلس تحت شجرة، أتأمل وأراقب· بعد ذلك أختار المادة وأختار حجمها وعدد الكتل المطلوبة·
أفضّل دائماً اختيار الحجر من المنطقة التي أعمل فيها· لا أحب الحجارة الدّخيلة حتى ولو كانت غالية الثمن· فكيف يمكن أن تضع منحوتة من الرخام الإيطالي مثلاً في مدينة عذراء كعمّان!
في هذه الأثناء أشتبك مع العمل وأنفصل عنه· تلزمني لحظات استراحة لأفكر فيه وأعيد النظر· أدرس بعناية فائقة عناصر الفراغ والإضاءة والظلال·
أحياناً أحسّ بفرح غامر ينتابني أو على الأصح بهياج من المشاعر، فأبادر إلى اعتلاء المنحوتة وأرقص في الهواء الطلق·
بعد الانتهاء من العمل ألجأ إلى إقامة مشهد مسرحي في المكان· في منحوتة عمّان أشركت خمسة وعشرين طفلاً في مشهد تمثيلي· أحد الأطفال كسر جزءاً من العمل· لم أغضب وإنما استثمرت هذا الكسر وطوّرته، فكان الكسر بمثابة إضافة إلى العمل·
؟ أيهما أقرب إلى قلبك اللوحة أم المنحوتة؟
؟؟ يمكن أن يكون النحت هو الأقرب إليّ· أنا مسكون بعمق الأشياء أكثر من سطوحها· في معظم الأحيان أقوم بعمل دهاليز وفراغات داخل الكتلة النحتية، كأنني أبحث عن شيء ما أو أسافر داخل العمل· عندما أرسم أحسّ أنني بحاجة إلى أن أنحت، ولذلك تتخذ رسوماتي شكل المنحوتة· أعبّر عن نفسي أكثر في النحت· سطح اللوحة لا يوفر لي مثل هذه الرغبة· فطاقته محدودة بعكس الحجر أو الطين أو الخشب الذي يحتمل الهدم والبناء، وهذا ما أعتمد عليه بشكل كبير·
ملوّثات بصريّة
؟ المدينة العربية تفتقر إلى الأعمال النحتية، مما ينعكس سلباً على النواحي الجمالية فيها· كيف تفسّر هذه الظاهرة؟
؟؟ المدينة العربية المعاصرة هي عبارة عن خليط من ملامح مختلفة هي على الأغلب مستوردة· هناك انفصام في روحها· لذلك نجد فيها مثل هذا الصراع بين المظاهر الشرقية الأصيلة وبين المظاهر الغربية الطارئة·
بدلاً من الأعمال النحتية والجداريات انتشرَتْ الدعايات الإعلانية على نطاق واسع· فكرة (الإسكانات) أيضاً قتلَتْ أيّ إمكانية جمالية· بذلك أصبحت المدينة العربية تعجّ بالملوّثات البصرية التي تخلق مع مرور الزمن حالة من الضجر والنزق لدى الناس·
من جهة أخرى فنحن شعوب لها علاقة وطيدة بالخطابة، حتى عندما نتلقّى العمل البصري نريد أن نسمع· نحن نطالب الفنان باستمرار أن يتحدث عن عمله، أن يصف اللوحة بكلمات· وفي هذه الحالة كان يجدر بنا أن نكتب بدل أن نرسم· هناك أيضاً موروثات اجتماعية خاطئة وأفكار مغلوطة تحدّ من حضور المنحوتة وذلك عبر إحالتها إلى فكرة الصنم·
؟ أنت كنت من القلائل المقرّبين من الفنان الكبير المرحوم (مصطفى الحلاج)· إلى أين وصلَتْ الجهود في جمع أعماله؟
؟؟ بدأت علاقتي بمصطفى الحلاج كأننا أبناء جيل واحد على الرغم من اختلاف السن بيننا· التقينا من خلال ملتقى للنحت في دمشق بمحض الصدفة، ونشأ بيننا جوّ من التواصل· كان مصطفى بالنسبة لي محجّاً· كان فناناً عالمياً بكافة المقاييس لا يقل عن دالي أو بيكاسو·
في ذكراه الأربعين كان لا بدّ لنا من عمل شيء· فكان هناك يوم عمل مفتوح كرّسه (محترف الرمال) لفن هذا العبقري· في هذا اليوم تمّ استذكار مصطفى الحلاج من خلال عرض فيلم خاص عنه ومن خلال عرض بعض أعماله·
بالنسبة للوحته الأخيرة المسمّاة (نهر الحياة) وهي لوحة طويلة تمتد مسافة 114 متراً والتي احترقت بعض أجزائها في حادثة النار التي أودت بحياته، فقد تمّ ترميم الأجزاء التالفة منها·
أمقت الرّخام الذي يلمع
؟ محترف الرمال يعدّ من الأمكنة الحميمة القليلة في عمّان التي تُعنى بالتشكيل والشعر والموسيقى· ماذا أضاف المحترف حتى الآن للمشهد الثقافي الأردني؟
؟؟ فكرة المحترف هي المشروع الحلم، قد تكون هي رغبة في هروب آخر من المدينة ومحاولة للبحث عن مكان يحتمل جنوني·
رجعت من البتراء إلى عمّان عام 1999 وكنت أبحث عن شيء ضائع· عثرت على أحد البيوت الفاتنة في جبل اللويبدة فقال المحترف· استهوتني فكرة العمل الجماعي فعملتُ من خلال مجموعة من الفنانين والشعراء على تهيئة الأجواء للعمل· حافظنا على الطابع البرّي للمكان وحاولنا أن يكون المحترف قريبا من روح الإبداع، وفي الوقت نفسه بعيداً عن مظاهر الترف التي تتباهى بها الجاليريات· أنا أمقت الواجهات الزجاجية الضخمة والرخام الذي يلمع· قد يكون هذا الشكل البدائي الفطري فيه نوع من التمرّد على الشكل التقليدي·
المحترف يقوم على اشتباك العناصر الإبداعية· نسعى إلى ابتكار توليفات جديدة بين الأجناس المختلفة من تشكيل وشعر وموسيقى وقصة ومسرح وسينما· مثل هذا الأمر ضروري في إغناء المشهد الثقافي·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©