الأحد 28 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإعدام لا يكفي «التوربيني»

الإعدام لا يكفي «التوربيني»
30 ديسمبر 2010 20:35
أوى نزلاء السجن إلى الزنازين التي تغمرهم بظلامها، بمجرد غياب الشمس، أدخلوا فيها رغم أنوفهم، كما تقضي اللوائح، ليلهم طويل وفي هذا الشتاء أطول، يغرقون في ذكريات مؤلمة ويسترجعون أحداثا جاءت بهم إلى هنا، غير قادرين على التخلص منها أو الهروب إلى غيرها، منهم من ينتظر الحكم ولا يدري ماذا سيكون ومنهم من حكم عليه بسنين طويلة حتى كاد أن يفقد الأمل في العودة إلى الحرية، ومنهم من يرتدون «البدلة الحمراء» بعد أن صدرت ضدهم أحكام بالإعدام، وهؤلاء ينتظرون كل صباح مجيء من يسحبهم إلى حبل المشنقة لتنفيذ الحكم، لا يعرفون النوم لأنهم في انتظار الموت المحقق، غير أنهم لا يعلمون موعد الأجل، والمؤكد عندهم أنه لا مفر ولا مهرب من الموت، إنه شعور لا يوصف. في هذه الليلة، تم رفع الراية السوداء وهي تعني أنه في نهاية الليلة ومع تباشير الصباح سيسقط رأس بتنفيذ الإعدام، لكن المساجين لا يرون هذه «الراية» التي تشير بسوادها للأسف إلى الضحايا وإلى حدث كبير، وفي الصباح جاء «عشماوي» وهو الشرطي المكلف بتنفيذ أحكام الإعدام، وهذا ليس اسمه الحقيقي، وإنما لقب يطلق على كل من يقوم بهذه الوظيفة، وجميعهم مشتركون في كثير من الصفات، فهم من ذوي البنية الجسدية القوية الضخمة، وشواربهم كثة طويلة، وبلا استئذان فتح «عشماوي» زنزانة «التوربيني» وعندما وقعت عينا المذنب عليه علم أن الأجل قد حان لا محالة، من الطبيعي أن يفقد السيطرة على أعصابه، كان إنسانا آخر غير الذي كان من قبل، قام مساعدو عشماوي بالإمساك بـ«بالتوربيني» من ذراعيه لاصطحابه إلى حيث غرفة التنفيذ، لكن الشاب الجلد، انهار ولم تقو قدماه على حمله، كان يسير بينهم محمولا على أيديهم، يجر نفسه جرا، وبالمثل كان «حناطة» شريكه في الجريمة نفسها، فكلاهما صدر ضده الحكم في الجلسة نفسها. في مكان التنفيذ لافتة بالخط الأحمر عليها عبارة «غرفة الإعدام». أمامها يقف المسؤولون الذين يحضرون اللحظات الأخيرة في عمر «المذنب المدان»، منهم مأمور السجن وممثل النيابة، وواعظ ديني، تم تذكير المتهمين بما ارتكباه من جرائم والحكم الصادر بحقها، ثم توجيه السؤال التقليدي إن كان المتهم يريد شيئا قبل الإعدام، وبصعوبة أجاب «التوربيني» وتلعثم كثيرا ولم يستطع النطق بالشهادتين خلف الواعظ، ثم تم إدخاله الغرفة ووضع عشماوي كيسا أسود فوق رأسه ووجهه وعلق حبل المشنقة في رقبته، ثم جاءه الأمر بالتنفيذ، لتتدلى الجثة، وفي لحظات يخرج آخر نفس، ويتكرر نفس المشهد مع المتهم الثاني «حناطة» وتنتهي المهمة ويتم إخطار ذويهما لتسلم جثتيهما. علم الجميع بتنفيذ الإعدام، لكن على غير العادة لم يتعاطف أحد مع المتهمين ولم يأسف أحد على هذه العقوبة، رغم شدتها وقسوتها، لأن ما ارتكبه المتهمان كان أبشع ما يرتكب من جرائم في حق أطفال صغار أبرياء لا حول لهم ولا قوة، فقد أصاب الرجل المجتمع بصدمة، ولو كانت هناك عقوبة أكبر لاستحقها. البداية في شهر نوفمبر من العام 2006، عثر على جثة طفل داخل سرداب أسفل محطة للقطارات، وتم إبلاغ رجال المباحث، وتبين أن الجثة عبارة عن هيكل عظمي لمرور فترة على الوفاة، ومع هذا تم التوصل إلى صاحب الجثة ويدعى «كمال» عمره أربعة عشر عاما، وإن كان الأمر في البداية مجرد وفاة قد تكون طبيعية أو حتى لو كانت جنائية، فهي حادث قتل، لكن خلال الأسبوع نفسه عثر على طفلين آخرين مقتولين، وما يربط بين الحوادث الثلاثة أن الضحايا كلهم قتلوا وألقيت جثتهم على شريط السكك الحديدية أو بين القضبان، وبهذا فإن رجال المباحث أمام ظاهرة إجرامية خطيرة غير مسبوقه، استنفرت وزارة الداخلية كل إمكاناتها وخبرائها وإداراتها، انتشر رجالها السريون والنظاميون في كل مكان يجمعون المعلومات والأدلة، وخلال يومين من السعي المستمر ليل نهار، تم التوصل إلى أول الخيط، ألقي القبض على «سمير» ابن الثامنة عشرة، وتأتي اعترافاته كالصاعقة، وتكشف عن عصابة غير مسبوقة، تجرد أفرادها من كل المشاعر الإنسانية تضم سبعة من المجرمين تتراوح أعمارهم بين السابعة عشرة والسادسة والعشرين، زعيمهم «رمضان» وساعده «سمير» الشهير باسم «حناطه» ويلقى القبض على الجميع، ويعترفون، والغريب أنه لم ينكر أحد منهم الاتهامات، بل أدلوا بتفاصيل جرائمهم في التحقيقات كأنهم في حالة «فضفضة». المهم هو هذا «الزعيم» الذي كان يقود هذه الشرذمة، ويتحكم فيهم، ويطيعون أوامره بلا نقاش، سيطر عليهم بجبروته، جلس زائغ العينين، يبدو كأنه يبحث حوله عن شيء مفقود، يدور بعينيه هنا وهناك، رأسه مائل إلى أسفل دائما، ينظر من طرف خفي، من يراه لأول مرة يعتقد أنه معتوه أو يعاني مرضا عقليا أو يعيش أزمة نفسية، متجمد المشاعر، متبلد الأحاسيس، قال: إنه من أسرة فقيرة معدومة، اضطر للخروج للعمل وهو طفل، وتنقل في أعمال كثيرة كلها شاقة عليه، وعندما كان في الثانية عشرة من عمره عمل في «كافتيريا» بمحطة القطارات، لكنه ذاق الأمرين على يد الرجل الذي كان يعمل معه، كانوا يطلقون عليه اسم «عبده توربيني»، خرج من السجن لاتهامه بالبلطجة فهو مسجل خطر، يعشق المشاجرات والمشاكل ويختلقها مع من يتعامل معه، من يعرفونه في محيط عمله ومسكنه يتجنبونه لاتقاء شره، وطالت مساوئه هذا الصغير يحمله ما لا يطيق، ويستولي على أجره، ويضربه، ويعرضه للذل والهوان خاصة أمام الناس وأمام أقرانه الصغار، مما جعله يسخط على الجميع ويكره كل من حوله، فترك عمله لكنه اقتبس اللقب من صاحبه، وأطلق على نفسه اسم «التوربيني» حتى نسى كل من يعرفه أن اسمه «رمضان» وبدأ من حينها يمارس لعبته الانتقامية، يستدرج الأطفال المشردين، يلتقط أبناء الشوارع ويسومهم سوء العذاب، يجبرهم على التسول ويستولي على الحصيلة كل يوم، استطاع أن يجعل منهم شبكة يتجسس بعضها على بعض، فلا يستطيع أحد منهم أن يخفي شيئا مما معه، بعضهم تخصص في السرقات والنشل، ومن يسقط لا يجرؤ على الاعتراف بأن «التوربيني» وراءه، وإلا ستكون نهايته الحتمية. اتسع نشاطه وأصبح تحت يديه أطفال من البنين والبنات والفتية والصبيان، قرب إليه بعضهم ليكونوا مساعدين له وعيونه في غيابه يتقدمهم «حناطة والجزار وبزازه»، ولكن نوازع الشر كانت ثائرة داخله كالبركان، نفسه الخبيثة تدعوه إلى المزيد من الجرائم والانحرافات لا تتوقف عند الاعتداء على الأطفال وإذلالهم وتسخيرهم لخدمته والعمل من أجله، لأنه لم ينس الواقعة الأخيرة بينه وبين «عبده» أستاذه ومعلمه في الإجرام عندما اصطحبه فوق سطح القطار المسرع واعتدى عليه ثم ألقى به من فوقه، فسقط وشجت رأسه وأصيب بعاهة مستديمة وحول في عينيه، ومع هذا لم يجرؤ على الإبلاغ، وهكذا كان منهجه اتخذ من أسطح القطارات مسرحا لارتكاب جرائمه، قد يذبح ضحيته، أو يحطم رأسها بحجر أو قطعة من الحديد ثم يلقي بالجثة على الشريط الحديدي فتمزقها القطارات وتضيع معالمها ولا يتم التعرف على صاحبها وتقيد الحادثة في النهاية ضد مجهول. ويضيف «التوربيني» في اعترافاته أنه ومساعديه قتلوا اثنين وثلاثين طفلا بهذه الطرق البشعة، بينهم ثلاث فتيات إحداهن كانت حاملا بطريقة غير شرعية، ووقعت جرائمه في ثماني مناطق متباعده وخلال سبع سنوات، ولذلك لم يتم التوصل ولا العثور على سبع عشرة جثة للضحايا، الذين كانوا ينتمون لأسر مفككة وفقيرة، يفتقدون أبسط قواعد التربية والرعاية، وهكذا كان المتهمون الذين على شاكلتهم ويتسمون بالانحرافات الشديدة، وتجردوا من المشاعر الإنسانية، وكشفت التحقيقات أنهم يستدرجون الأطفال إلى مناطق مهجورة ويعصبون عيونهم ويكممون أفواههم، ويفصلون رؤوسهم من أجسادهم، وانتهت النيابة من جمع الأدلة بعد العثور على بقية الجثث والاعترافات التفصيلية للمتهمين ووجهت اليهم ثمانية اتهامات هي القتل والاغتصاب والسرقة والخطف وهتك العرض والتسول والتحريض على الفسق وحيازة الأسلحة البيضاء، وأحالت المتهمين إلى محكمة الجنايات وطالبت بتوقيع أقصى عقوبة عليهم. بدأت المحاكمة في مارس من العام 2007، كانت تصرفات المتهمين تدل على التدني والخسة، خلع بعضهم ملابسهم الداخلية وهم في قفص الاتهام وجاءوا بحركات وإشارات خارجة، وكرروا اعترافاتهم، وبعد ثلاثة أشهر وتحديدا في يونيو من نفس العام أصدرت المحكمة حكمها بمعاقبة التوربيني وحناطة بالإعدام شنقا، وباقي المتهمين الخمسة بأحكام بالسجن المشدد تراوحت بين ثمانية عشرة وخمسة وأربعين سنة، وطعن المتهمون بالنقض على الحكم أمام المحكمة العليا التي رفضت طعنهم، وفي السادس والعشرين من يناير الماضي أيدت محكمة النقض الأحكام التي أصبحت نهائية وواجبة التنفيذ، ليظل التوربيني وحناطة على مدى ما يقرب من عام كامل يرتديان الملابس الحمراء في انتظار تنفيذ حكم الإعدام شنقا، وها هو قد تم تنفيذه الأسبوع الماضي. لينالا عقابهما جزاء وفاقا، والجميع يرددون: إنهما يستحقان أكثر من ذلك!
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©