الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

زوجة فوق الخيال

زوجة فوق الخيال
30 سبتمبر 2011 00:46
كافح أبي طوال حياته ليحقق لنا أنا وأخي السعادة وليؤمن مستقبلنا، ضحى براحته وبذل كل جهده من أجل أن يجعلنا نحصل على شهادات جامعية، ويكون لكل منا شقته المستقلة التي تليق بنا، لأنه لا يريد أن نشقى مثله، وأيضاً كي يجنبنا المعاناة التي عاشها مكافحاً من أجل أن يوفر لنفسه ولأمي احتياجاتهما، ووجد من أمي خير معين له على متاعب الحياة ومشاكلها وصعوباتها، فكانت أسرتنا متماسكة متحابة، كل واحد فيها يؤدي واجباته وقد لا يسأل عن حقوقه، الأب في عمله بالخارج والأم في مهامها بالداخل وأنا وأخي نجد في استذكار دروسنا وننجح بتفوق فينسى الجميع آثار التعب. شربت هذه الصفات كلها وأصبح أبي وأمي مثلي الأعلى في الحياة، أتصرف كأنهما موجودان معي في كل لحظة مهما تباعدت المسافات، فلا أقبل أن تهتز ثقتهما بي ولا أفعل إلا ما يرضيهما واستمر ذلك خلال سني عمري كلها، واعتدت أن أتناول طعامي دائماً في البيت ولا أذوق شيئاً في الخارج تحت أي ظرف، حتى أنني لا أستسيغ ولا أتذوق أي غذاء إلا مع أسرتي، حتى ملابسي لا بد أن يشاركني أحدهم اختيارها، لأن لدينا قناعة تامة بأهمية المشورة بجانب الثقة بالتوافق في الآراء والرؤى. قبل أن أقبل على الزواج اخترت فتاة ارتبطت بها عاطفياً وتبادلني الشعور ومع ذلك لم أتخذ أي خطوة إلا بعد أن باركت أسرتي اختياري بالإجماع، فكانت سعادتي لا توصف، ولم أكن في ذلك الوقت بحاجة لأي شيء، فقد كانت الأموال التي ادخرها أبي لهذا الغرض كافية وأحضر للعروس كمية كبيرة من المجوهرات لم يكن فقط يريد من ورائها أن تتحلى بها وإنما أيضاً لتكون عونا لنا في الحياة إذا احتجنا إليها في أي وقت، وفعل أخي مثل ذلك، فبدأنا حياتنا بلا أعباء أو ديون أو أقساط، بل زاد على ذلك أن أودع لكل منا مبلغاً في البنك، وبالطبع كنا أحسن حالاً من أقراننا وربما أفضل من كل من نعرفهم من أصدقاء وجيران وأقارب وزملاء. انتقلت أنا وزوجتي إلى مسكننا في المنطقة الراقية، وبدأنا حياتنا الزوجية قريباً من أسرتي، فنتزاور كل يوم تقريباً، إما أن نذهب إليهم أو يأتون إلينا ونقضي يومي الخميس والجمعة كاملين معاً إما في بيتي أو في بيت أبي أو نخرج في نزهة جماعية، ومن حسن الحظ وتوفيق الله سبحانه وتعالى أنني رزقت بأسرة زوجتي التي كانت تشبهنا في العادات والتقاليد، فكان التوافق يرفرف علينا جميعاً، وزوجتي كانت وحيدة أبيها وأمها فأغدقا عليها بكل ما يمتلكان وقدما لها كل شيء وحاولا إسعادنا بأكثر مما نتمناه ونحلم به. خلال ثلاث سنوات تغير الكثير في حياتنا بعد أن فقدنا خلالها أبي وأمي ووالديّ زوجتي، شعرنا بعدها مع كبر سننا باليتم والفراغ، وفقدان الحنان وقد أصبحنا بلا سند، ولم نشعر بلذة الأموال الكثيرة التي آلت إلينا وورثناها، ولو كان الاختيار لنا لاخترنا الأهل وضحينا بكل المال، وإذا كان كل شيء يولد صغيراً ثم يكبر فإن المصائب تولد كبيرة ثم تصغر، وهكذا تضاءلت الأحزان وانتهت كما هي سنة الحياة، وبعد فترة ليست بالقصيرة عادت الأمور إلى طبيعتها بفضل الله ثم زوجتي التي استطاعت أن ترتفع بنا فوق الملمات، وتمكنت من تخفيف الآلام، واستدارت الأيام إلى سابق عهدها. كانت حياتنا نموذجا للاستقرار والتفاهم، ووجدت فيها ما كنت أريد خاصة وأنا أراها مثل أمي تماماً وفي كل تصرفاتها، فزوجتي تتولى بنفسها شؤون المنزل من الألف إلى الياء.. تعد الطعام وتنظف المسكن وتغسل الملابس والأواني وترتب الأسرة واحتياجاتي جميعها جاهزة، من الجوارب إلى البدل وربطات العنق، وتشاركني التنسيق بينها حتى أن كل من يراني أو يتعامل معي لا بد وأن يثني على أناقتي، وتناسق هندامي وانسجام الألوان، وهي تسعد بذلك، لأنه نتاج فكرها ومن إخراجها. الانسجام الذي كان في حياتي الزوجية غير مسبوق، والتفاهم لا مثيل له حتى في الخيال، تبادل نظرات العيون يغني عن كثير من الكلام، والصمت أبلغ من الحوار، نتفاهم بلغة الإيحاء والإحساس حتى عن بعد، تتوحد مشاعرنا في الرغبات إذا أردنا أن نتنزه أو نغير الأجواء والأماكن، تستجيب لمطالبي دون نقاش ولا تعترض على أي شيء أفعله أو قرار اتخذه مهما كان ولو كان يخصها هي، وإن كنت لا أفعل إلا ما أعلم أنه يرضيها، ورفضت من البداية أن تجعل أموالها في معزل عن أموالي، وأصرت على أنها كلها ملك لي ولي كامل الحرية في التصرف فيها ومن غير الرجوع إليها في كل صغيرة أو كبيرة، ولم تلتفت إلى تحذيراتي من أنني قد أخدعها وأستولي على أموالها وأتركها أو أتزوج عليها، فكان رد فعلها أنها حررت لي توكيلاً عاماً بحرية التصرف فيما تملك. مع هذا كله لم تكن زينة الحياة الدنيا مكتملة لنا، فبعد مرور ما يقرب من العشرين عاماً على زواجنا لم نرزق بطفل، وإن كان ذلك لا يعكر صفو علاقتنا إلا أننا نفكر أحياناً في ذلك فأنا أرغب بشدة في أن أكون أباً وألمح في عينيها عاطفة الأمومة، لكن كلا منا لا يبوح للآخر بما يعتمل في صدره، حتى لا يذكره بما لا يريد أن ينكأ الجراح الخفية، ويحرص على عدم إثارة مشاعره، وأيضاً كي لا يتحوَّل الأمر إلى مشكلة أو أزمة تشغل تفكيرنا وتنغص علينا ما نحن فيه، ومن جانبي لم يكن الأمر مزعجاً على الإطلاق، وقد تركته لمشيئة الله لأنني أُؤمن أن المنع أحياناً يكون أفضل من المنح وهو أعلم بمن خلق ولا راد لقضائه، وعلينا أن نعيش حياتنا كما يشاء الله ويجب ألا نبحث بأنفسنا عمَّا يقلب علينا الأوجاع. لأول مرة في تاريخ حياتنا الزوجية بدأت زوجتي تشكو من أعباء المنزل وأنها لم تعد قادرة عليها، وترجوني أن تستعين بفتاة ريفية قريبة لها، وهي فقيرة وهادئة ولن نشعر بوجودها بيننا، وبعدما رفضت ذلك لأنني لا أحب الطعام والشراب إلا من يديها، قالت زوجتي أنها سوف تداوم على ذلك، وأنها فقط ستجعل الفتاة تقوم بأعمال النظافة والغسيل، ولأنني حريص على راحتها وافقت خاصة أن هُناك غرفة مستقلة يمكن أن تقيم فيها الخادمة، وفي النهاية لا يهمني إلا رضاها وراحتها، وخلال أيام جاءت زوجتي بها وإذا بي أمام ملكة جمال لم تأخذ فرصتها، لا ينقصها إلا بعض الملابس وقليل من المكياج، ولم تكن أكثر جمالاً من زوجتي رغم فارق العمر بينهما فزوجتي تكبرها بحوالي عشرين عاماً، ولم يكن لهذا كله محل من الإعراب في تفكيري ولم يرد عليه على الإطلاق. لاحظت اهتماماً غير طبيعي من زوجتي بالخادمة، تشتري لها الملابس الغالية المستوردة، بل والمثيرة وتجعلها ترتديها أمامي، وأنا أخجل من الموقف فكثيراً ما أترك لهما المكان الذي تجلسان فيه، وفي البداية اعتقدت أنها تريد أن تجعلها نظيفة كي لا أنفر من وجودها معنا، ولكن مع استمرارها في المبالغة بالاهتمام بملابسها ظننت أنها تريد أن تبحث لها عن عريس وأنا أرحب بذلك، ولكن أريد ألا تبالغ في الاهتمام بزينتها وملابسها، وأفصحت لزوجتي عن ذلك لكنها لم تستجب، إلا أنها بعد أقل من شهر كشفت عن خطتها المجنونة التي لا يقبلها عقل وخاصة عقل المرأة والزوجة، أنها دبرت ذلك كله لتجعلني أتزوج قريبتها والتي لم تكن يوماً من الأيام خادمة، وإنما هو فخ حاولت أن توقعني فيه ليس من قبيل الخديعة أو المكر وإنما من باب الترغيب في الزواج من أجل إنجاب ولد يرث أموالنا ويشبع رغبتي في الأبوة، مضحية بعاطفة الأمومة، وتقبل أن تشاركني فيها امرأة أخرى على عكس ما تفعل كل نساء الأرض. لم أصدق ما يحدث، فهو لا علاقة له بالواقع وإنما خيال غريب، حتى أنني ساورني الشك في أن زوجتي لم تكن تحبني بصدق طوال هذه السنين، وبالطبع وفي كل الأحوال رفضت عرضها وتحوَّل الأمر إلى مشكلة لأول مرة في حياتنا، فهذا هو الخلاف الأول الذي عرف طريقه إلى بيتنا، فكان غريباً علينا ولم نر مثله، فكان مثل الزلزال العنيف الذي هزنا بعنف، وغير مجرى حياتنا، وكان من أقوى توابعه أن عادت زوجتي إلى بيت أبيها، وكانت أيضاً أول مرة تذهب غاضبة، ولم أستطع أن أبتعد عنها وبعد يوم واحد توجهت لمصالحتها، فكان الزلزال الأعنف أنها وضعتني في خيار لا أقوى عليه، إما أن أتزوج قريبتها وإما أن أطلقها، ورفضت الخيارين وتركتها بعض الوقت لعلها تتراجع عن جنونها. أسبوع واحد مر من القطيعة، كانت نهايته أكثر غرابة، إذ وجدت إعلاناً من المحكمة بأن زوجتي تطلب الطلاق وعليَّ أن أتوجه لحضور الجلسة والرد على مطلبها، ولم أجد ما أرد به عليها لأنها لم تذكر في الدعوى إلا أنها تطلب الطلاق للضرر ولم تذكر ما هو الضرر، وأمام القاضي لم تزد على ذلك، وهذا وحده في القانون لا يكفي للحكم لصالحها، وتأجلت القضية لإثبات الضرر الواقع عليها. خرجت من المحكمة لأجدها تلحق بي وهي تبكي وتتأبط ذراعي وتعتذر عمَّا فعلت بي، انسابت دموعها غزيرة أعاقتها عن الكلام، ولأن التفاهم ما زال كما هو بيننا إلا أنني هذه المرة انتظرت لكي أسمع منها توضيحاً وتفسيراً، فجاء كما ظننت، وقالت إنها ما فعلت ذلك إلا من أجلي وكي أحقق حلمي في الإنجاب، لم أزد إلا أن قلت لها إنك مجنونة، فقالت: مجنونة بك.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©