الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كُثَيِّرعزَّة.. شاعر الحظ السيء

كُثَيِّرعزَّة.. شاعر الحظ السيء
23 يناير 2013 20:22
الدكتور عارف الكنعاني في كتابات سابقة قد أتينا على ذكر بعض هؤلاء الشعراء الذين كان شعرهم تجسيداً لتجربة الحب، وارتبطت أسماؤهم بأسماء حبيباتهم مثل قيس ليلى وجميل بثينة، فنحن اليوم واستكمالاً لهذا الاتجاه نقدم شاعراً آخر لا يقلّ قيمة وشهرة وعطاء عن الشعراء المذكورين.. ألا وهو الشاعر كُثَيِّر عزَّة. وكُثَيِّر تصغير كثير.. وقيل إن اسمه كان (كثيراً) ولكن صغر الاسم، إما تحبباً من الأهل.. وإما تحقيراً من الحاسدين على اعتبار أن الشاعر كان قصير القامة صغير الحجم. سرّ الاسم وبالعودة إلى المراجع التاريخية مثل الأغاني للأصفهاني.. فإنه كُثَيِّر بن عبدالرحمن بن أبي جمعة بن الأسود بن عامر بن عويمر بن مخارف بن ربيعة بن يعرب بن قحطان. هو نفسه ذكر اسمه دون تصغير عندما قال: وقـــال لـي البُــلاّغ وَيْحَــكَ إنهــا بغيــركَ حقــــاً يـا كثــيرُ تهيــــــمُ وإذا كانت سنة ميلاده مجهولة، وغير مسجلة في أي مرجع من المراجع التي تناولت تاريخ الشعر والشعراء، إلا أن سنة وفاته حسب تلك المراجع كانت في عام 105 هجرية.. في أواخر خلافة يزيد بن عبدالملك وقيل إنه بلغ إحدى وثمانين سنة.. وهذا يجعل تاريخ ميلاده التقريبي يرجع إلى عام 23 هجرية أي أواخر خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. اكتسب الشاعر شهرته من تشبيبه بعزّة وعشقه لها.. وبالتالي حرمانه منها على عادة العرب الذين يأبون تزويج بناتهم لشعراء شبّبوا بهن. كان كُثَيِّر عزَّة في بداية حياته الشعرية راوية لجميل بثينة يحفظ شعره ويرويه ويقدمه على شعره.. وكان لجميل بثينة قدر كبير لدى الشاعر كُثَيِّر، حيث اعتبره أستاذاً له ورائداً سار على نهجه.. وقد قال: «وهل وطّأ لنا النسيب إلاّ جميل». وقال أيضاً: «جميل.. أشعر الناس». وقد عاش الشاعران في زمن واحد.. وكانا صديقين.. بل إن بثينة وعزّة كانتا أيضاً صديقتين. هكذا بدأ الحب تقول المراجع.. مات والد كثير.. وكثير في سن مبكرة.. فكفله عمه وكان رجلاً صالحاً، فاشترى له قطيعاً من الإبل قام برعايته والاهتمام به. وفي يوم من الأيام كان كثير يقود قطيعه في منطقة تسمى الجار على ساحل البحر الأحمر فلما بلغ موقع الخبت التقى نسوة من بني خمدة فسألهم عن أقرب موضع للماء ليقوم بسقاية إبله فأرشدنه وقامت منهن فتاة صغيرة السن بإرشاده إلى موضع الماء.. تلك الفتاة كانت عزّة.. وبينما كان يقوم بإرواء إبله..جاءته تلك الفتاة الصغيرة الجميلة المثيرة: ? السلام عليك أيها الرجل. ?? وعليكِ السلام أيتها الجميلة. ? خذ هذه الدراهم. ?? دراهم؟ ولماذا تعطينني الدراهم؟ ? النسوة اللواتي قمن بإرشادك إلى هذا الموضع جمعنها لك. ?? وما حاجتي بالدراهم؟ ? بل هنّ اللواتي يحتجن إلى كبشٍ من كباشك.. والدراهم ثمن للكبش إن وافقت. ?? طبعاً لا أوافق. ? ترفض إعطاءنا الكبش. ?? بل أرفض أخذ الدراهم.. أما الكبش فهذا هو.. خذيه لهنّ هدية بسيطة. ? تعطينا الكبش بلا مقابل.. ?? يكفي أن تأتي إليّ وأتحدث معك.. ما اسمك أيتها الفتاة الصغيرة الجميلة؟ ? اسمي عزّة.. ?? عزّة.. بنت الغزال.. ما أجمل هذا الاسم. وهكذا بدأت القصة.. وكان ذلك الحب الخالد الذي تناقلت حكايته الأجيال من خلال شعر كثير، سواء الشعر الذي وصل لنا أو الشعر الذي لم يصل وضاع مع ما ضاع من شعر وأدب على مر الزمان. كانت عزّة كما وصفتها المراجع امرأة حلوة حميراء نظيفة، إذا تحدثت أخذت العقول ولامست القلوب فلا أبرع منها متحدثة.. ولا أحلى من حديثها حديث.. ولكنها لم تكن جميلة بمقاييس هذا الزمن الذي تتربع فيه النحيفات على عرش الجمال، بل كانت ضخمة الكفل والساقين والساعدين. ومنذ بدأ ذلك الحب العذري بين كثير وعزّة، بدأت القصائد تنهالُ واحدة بعد الأخرى. فما كان من أهل عزّة أمام هذا السيل المتدفـق مـن شـعر كثير إلا أن قاموا بتزويجها، بل وترك الجزيرة العربيــة والرحيــل إلى مصر.. وهذا أدى إلى إثارة نــيران الحــب في قلبــه وعلى لهب تلك النيران صــاغ كثيــر أجمــل قصــائد الحب والمعاناة. وتذكر المراجع أن الشاعر كثير أدرك عزّة وهي ترحل إلى مصر مع زوجها وأهلها في وادٍ بالأثيل قرب المدينة.. فوقف واجماً محاولاً أن يثبت لها حزنه على فراقها فيقول: فلَمْ أدرِ أن العــين قبــل فراقهــا غداةَ الشبا مِن لاعجِ الوجدِ تجمـدُ ولم أرَ مثلَ العينِ ضَنّــتْ بمائِهــا عليَّ ولا مثلي على الدمع يحسدُ ومن الحكايات المسجلة في تلك المراجع أن الشاعر كثير لقي عزّة ذات يوم وهي منقّبة ولم يعرفها.. وحينما طلب وصالها قالت له: وهل تركت عزّة فيك بقية لأحد؟ وقد ظل كثير على حبه لعزّة حتى آخر العمر.. غيرة العشاق تذكر الروايات المسجلة في المراجع التاريخية أن كثيراً قام بمهمة الرسول بين جميل وبثينة.. كما قام جميل نفسه بهذه المهمة مع عزّة. وعندما يلتقي جميل عزّة في حضور كثيّر، يلاحظ كثيّر بكثير من الانزعاج أن عزّة أبدت ما يدل على إعجابها بجميل.. فتشتعل نار الغيرة في قلبه ويغضب من تلك الحركات، حيث كان جميل طويلاً وحسن الوجه أما كثيّر فكان قصيراً ودميماً. بل إن بعض القصص تزعم أن علاقة صداقة قامت بين معشوقتي الشاعرين بثينة وعزّة.. وقيل إن الصديقتين اتفقتا على أن تعبثا بكثيّر لامتحان مقدار صدقه في الحب الذي شاع في شعره.. فقالت عزّة لبثينة.. ? تصدي لكثيّر وأطمعيه في نفسك حتى أسمع ما يقوله لك.. فأقبلت إليه بثينة وعزّة تمشي وراءها متخفية.. قالت بثينة بدلال: أيها الشاعر الرائع.. ألم نعجبك.. ألا ترى جمالنا؟ قال كثير: وهل أبقيت لنا نظراً لنرى غير هذا الجمال. ? فماذا تقول إذن؟ رمتنــي علــى عمــدٍ بثينــة بعدمــا تولــى شــــبابي وارجحــنّ شــبابُها وهنا كشفت عزّة عن وجهها لما سمعت غزله ببثينة.. وما كاد يراها ويفهم المؤامرة.. حتى أكمل قائلاً: ولكنّمـــا ترميـــن نفســـــاً مريضــةً لِعــزّةَ منهـــا صفوُهــــا ولبابُهـــــا فضحكت عزّة وقالت: ? آه منك.. لقد نجوت. وانصرفت الصديقتان وهما تتضاحكان. صحيح أن كثير عزّة لم يهم كالمجنون.. ولم يقتله الحب.. حب عزّة كما فعل مع غيره.. إلاّ أن عشقه كان صادقاً.. وهذا ما جعل قصائده تنتشر انتشار النار في الهشيم لتصل من أقصى الجزيرة العربية إلى أقصى بلاد العرب في المغرب والأندلس. وإن أخذ على الشاعر المبالغة في شرح مشاعره وأن المبالغة توأم الكذب.. إلا أن تكريس حياته وشعره لقضية الحب جعلته قريباً من الصدق غير بعيد عن الحقيقة. توفيت عزّة في مصر حوالي سنة 80 هجرية.. ومما قاله الرواة حول قصة موتها.. أن الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان عندما اجتمع بها قال: ? لم يبق إنسان في الشرق أو الغرب إلا سمع بقصة الحب بينك وبين كثيّر. ?? هذا صحيح يا أمير المؤمنين.. وهو الذي أشقاني قبل الزواج وبعده. ? ألا تحبينه يا عزّة؟ ?? تريد الحقيقة؟ ? لا أريد غيرها.. قولي يا عزّة. ?? منذ أول لقاء بيننا وقلبي متعلق به.. ? أعرف يا عزّة.. ولكن الآن بعد وفاة زوجك.. لماذا لا نجعل لقصة الحب نهاية سعيدة؟ ?? ماذا تقصد يامولاي؟ ? هل توافقين على الزواج؟ ?? بمن يا مولاي؟ ? بكثير.. ?? أتزوج؟.. وبعد هذا العمر.. ? لِمَ لا.. وافقي وأنا أرتب الأمر. ?? ومن يعص لك أمراً يا مولاي.. ? إذن اتفقنا.. كتب عبدالملك بن مروان لكثيّر طالباً منه الحضور بسرعة. أسرع كثير إلى دمشق للقاء الخليفة.. والزواج من حبيبته التي فرّقت بينهما العادات والتقاليد والأحكام الجائرة. فما إن وصل حتى طالعته جنازة عرف فيها جنازة عزّة فخرّ مغشياً عليه ولمّا أفاق ذهب إلى قبرها ليرثيها بأرق وأعذب الشعر. سراجُ الدّجى صفُر الحشا منتهى المُنى كشمس الضُّحـى نوّامـة ٌ حــينَ تُصــبحُ إذا ما مشــت بيــن البيــــــوتِ تخزَّلـتْ ومالـــتْ كمــا مـــالَ النَّزيــفُ المــرنَّحُ تعلَّقْـــتُ عـــــزّاً وهْــــيَ رُؤدٌ شَــبَابُها عَلاَقَــــة َ حُــبٍّ كَـادَ بالقلـــــبِ يَرْجــحُ أقـولُ ونِضْــوِي واقِــفٌ عِنْـدَ رَمْسِـــها عَلَيـــكِ سَـــلامُ اللــه والعــينُ تســفَحُ فهــــذا فــراقُ الحــــــقِّ لا أن تزيرنــي بِلاَدَكِ فَتْـــــلاءُ الذِّرَاعَيْـــــنِ صَيْـــــدحُ وَقَـدْ كُنْــتُ أَبكـــي مِــنْ فِرَاقِكِ حَيَّــةً وأنـتِ لعمـــــري اليــومَ أنــأى وأنــزحُ فَيَـــا عَزَّ أَنْـــــتِ البَــدْرُ قــد حـَالَ دُونَهُ رجيــــعُ تــرابٍ والصّفيــــــحُ المُضــرَّحُ فَهَـلاّ فَدـَاكِ المــوتَ مَـــنْ أَنْتِ زيْنُـــهُ وَمَـــنْ هُــوَ أَســــْوَا مِنْــكِ دَلاًّ وأقبــحُ علــــى أمِّ بكـــرٍ رحمــــــة ٌ وتحيّـــــــةٌ لهـــا منـــكِ والنّائــي يـــودُّ وينصـــحُ منعَّمـــة ٌ لـــو يـــدرجُ الـــذرُّ بينهـــــــا وبيــــن حواشـــي بُردِهـــا كادَ يجـــرحُ ومـا نظــرت عينــي إلـى ذي بشاشــة من النّـاسِ إلاّ وهـيَ فـي العـينِ أملـحُ ألا لا أرى بَعْـــدَ ابنَــــة ِ النَّضْـــــرِ لــذَّةً لِشَـــــيءٍ ولا مِلْحــــاً لمَـــــنْ يَتَمَلَّــحُ فـــلا زَالَ رَمْــسٌ ضَـــمَّ عـــــزَّة َ سَــائِلاً بــهِ نعمــــة ٌ مــن رحمــة اللـه تســفحُ فــإنَّ التــي أحببـــتُ قـد حـالَ دونهــا طـــوالُ الليالــي والضّريــحُ المُصفَّــحُ أربَّ بعينـــــــيَّ البُـكـــــا كـلَّ ليلــــــة وقد كـادَ مجــرى الدَّمـعِ عينــي يُقـرِّحُ إذا لـم يكـنْ ما تســفحُ العــينُ لي دماً وشـــــرُّ البكـاءِ المُســـــتعارُ المُســـيَّحُ شرح المفردات صفر الحشا: ضامرة البطن لطيفة. تخزّلت: مشت متثاقلة. النزيف: السكران. الرؤد من النساء: الشابة الحسنة. يرجح بالقلب: يثقله. نضوي: جملي المهزول. تسفح: تنصب. رجيع تراب: التراب الذي أقرح من الحفرة ثم أعيد إليها. الصفيحة: الحجر العريض. يدرج: يمشي ويدب. الذر: صغار النمل. يتملح: يتكلف الملاحة. ابنة النضر: عزّة. تسفح: تنصب وتسيل. المصفح: المبلط بالحجارة. المراجع والمصادر ديوان كثيّر عزّة، قدم له وشرحه: مجيد طراد كتاب الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني لسان العرب، ابن منظور
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©