السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نيتشه بين الإلحاد والتصوف

نيتشه بين الإلحاد والتصوف
8 ديسمبر 2010 21:46
شغل الفيلسوف الألماني نيتشه الباحثين والمفكرين في الثقافة والفلسفة، فهو صاحب نظرية الانسان الأعلى أو السوبرمان، وهو في نظر كثير من فلاسفة الغرب يمثل ذروة الالحاد، لكن هناك تحليلا آخر يرى انه كان يمثل درجة من الايمان والتصوف. وفي ثقافتنا العربية شغل به الكثيرون، ووضع د. عبدالرحمن بدوي كتابا مبكرا عنه عام 1939، وكان نيتشه موضوعاً لرسالة الماجستير التي أعدها د. فؤاد زكريا ولم يكن الاهتمام بنيتشه أقل خارج أسوار الجامعة، أي بين المثقفين وعلى صفحات المجلات والصحف ونرى في اعداد “الهلال” مطلع القرن العشرين إشارات في مقالات جورجي زيدان حول نيتشه، لكننا نجد في عام 1938 فليكس فارس يترجم كتاب نيتشه الأهم “هكذا تكلم زرادشت” الى اللغة العربية، ونعرف من تقديمه للترجمة أنه عمل عليها بتشجيع من الأديب مصطفى صادق الرافعي، وأحمد حسن الزيات صاحب “الرسالة” وقد نشر فصولا مطولة من الكتاب بمجلته “الرسالة” وقنصل مصر بالآستانة آنذاك “حافظ عامر بك” وكان من الكتاب وله رسالة متميزة عن “الحج” ويقول المترجم “إن ما دعانا وأصحابنا المشار اليهم الى ترجمة زرادشت هو أننا نظرنا الى فلسفته من الوجهة الملامسة للمبادىء الدينية الاجتماعية التي نتجه الى إحياء حضارتنا القديمة على أساسها، وقد رأينا أن هذا المؤلف الفريد ليس من الكتب التي تنقل الى لغتنا لما لها من قيمة فلسفية وأدبية فحسب بل هو من الكتب التي يجدر بالناشئة درسها كما يدرسها طلاب الجامعات في كل قطر أوروبي”. ثم يقول: “ولعل المفكرين يسلمون معنا بأن خلو المكتبة العربية من هذا المؤلف الفريد الذي ترجم الى جميع اللغات الحية واتخذ نموذجا للصراحة والاخلاص في طلب الحقيقة يعد نقصا في هذه المكتبة ويسجل قصورا علينا”. ومن هذا المنطلق اتجه الى ترجمة الكتاب، وفي اثناء الترجمة، وفي الفصل الذي يحمل “بين غارتين في الصحراء” اجتهد وتصرف في الترجمة اكثر وأراد أن يطمئن الى ما قام به فرجع الى متخصص في فلسفة نيتشه هو د. روبرت تينجر الأستاذ في جامعة فيينا، وتلقى منه رسالة في 19 إبريل 1938 يقره فيها على ما ذهب اليه. قرأ عبدالرحمن بدوي نيتشه باعتباره متمردا على الفساد الاجتماعي والانساني واراد بدوي لقارئه ان يتشرب روح التمرد التي يبثها نيتشه ضد الضعف السياسي والنفاق الأخلاقي والاجتماعي، لكن فيلكس فارس ترجم “هكذا تكلم زرادشت” وتحدث عن نيتشه بروح المتصوف، لذا راح يقدم فهما شرقيا وعربيا واسلاميا له. يقول: “لقد تمرد نيتشه، وخفيت عنه حقيقة الدين الذي أخذ به الغرب عن عيسى كما خفيت عنه حقيقة ما أنزل على محمد فشوهه هذا الغرب بالافتراء والتشنيع تعصبا وجهلا فوقف مفكرا جبارا لا يستسلم لفكرة العبث في غاية الكون ولا يرضى بالنظم الاجتماعية، التي أوجدتها المدنية وأسندتها الى الدين. ثم يقول “ولو تسنى لنيتشه أن ينفذ حقيقة الى الايمان الذي دعا عيسى اليه مكملا ما جاء به موسى لتجلى له ايمان بقوة ترفع الضعفاء، ولو تسنى له أن يستنير بما جاء به الاسلام من مبادىء اجتماعية عملية عليا تماشي ما جاء به عيسى ولا تناقضه لأدرك أن في الدين الحق دستوراً يهدم كل ما أراد هو هدمه من صروح الفساد في المجتمع”. ويبدو أن فيلكس فارس كان منتبها لرد الفعل الذي يمكن أن يحدث من جراء ترجمة هذا الكتاب لذا راح يستبعد ذلك ويحذر منه بالقول “هذا هو جحود نيتشه في تعاليم زرادشت وهو في تقديرنا إذا نحن استنرنا بالدين الحق كما تدركه ذهنيتنا السامية جحود يتجه الى غير الاله الواحد الأحد رب الناس أجمعين”. ثم يقول “بل إننا إذا ذكرنا القاعدة المثلى التي وردت في القول العربي المأثور “أعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا” إذا ذكرنا ذلك، يتضح لدينا أن نيتشه قد ذهب الى أبعد مدى في الامتثال للوصية الأولى وقد فاتته الوصية الثانية، وهي راسخة في أرواح ابناء هذه البلاد الشرقية العربية. فليس إذا في عظات زرادشت ما يزعزع عقائدنا أو ينال من إيماننا، بل إن فيها ما يساير والمبادىء العليا التي اتخذها السلف الصالح أساسا لإقامة عظمة، الدين على عظمة الحياة. هذا الفهم لفلسفة نيتشه يتضح خاصة في الفصل المعنون “بين غارتين في الصحراء” إذ يقول في بدايته “إن الصحراء تشع وتمتد فويل لمن يطمح الى الاستيلاء على الصحراء انها مهابة. تليق بمهابة صحراء افريقيا، تليق بنذير يهيب بالناس الى مكارم الأخلاق. انها لروعة يا صديقتي عندما أتيح لي انا ابن اوروبا ان اجلس عند أقدامكما تحت ظلال النخيل، من أجل الصلاة”. ويتكرر لديه هذا النداء “حي على الصلاة” في معظم مقاطع هذا الجزء، فضلا عن دعوات أخرى، مثلا يقول “أنا قادم من أوروبا، أشد العرائس جحودا. أصلحها الله إنه السميع المجيب”. د. روبرت ريننجز يقول للمترجم في رسالته اليه “أما كلمة “صلاة” فقد أصبتم في ترجمتكم إياها حي على الصلاة. هذا وقد يكون النبي محمد هو المرموز اليه بأسد الصحراء، ونذيرها حسب تأويلكم. والواقع ان هذه العبارة من د. روبرت الاستاذ في جامعة فيينا والمتخصص في نيتشه، كانت تقتضي من المترجم أن يبحث في مدى معرفة نيتشه بالاسلام ونبي الإسلام خاصة أنه في هذا الكتاب كشف عن معرفة واسعة بالشرق. ويتحدث باستفاضة عن الصحراء، وهو ابن اوروبا، ولد وعاش في المانيا ثم تنقل في أوروبا، خاصة ايطاليا وفرنسا، ومن ثم هو لم ير صحراء، لكن معرفته بالصحراء جاءت من قراءته عن الشرق القديم ومن ثم لابد ان يكون قد عرف عن الاسلام أو سمع به، لكن هل هذه المعرفة مؤكدة وما حدودها؟ خاصة وان الفلاسفة الألمان كانوا بفضل الاستشراق الألماني يعرفون الاسلام، وهذا الاستشراق كان أقرب الى الانصاف لهذا الدين وحضارته، ولا ننسى ان نيتشه كان معاصرا للفيلسوف والشاعر الالماني جيته الذي كان معجبا بالاسلام واعتنقه في نهاية حياته. والواقع اننا نجد بعضا من القيم النبيلة في كلام نيتشه، يذكرنا بحديث وحكم بعض متصوفة الاسلام، في فصل “العفة”، يهاجم المدن الحديثة التي على حد تعبيره “تركز فيها عبيد الشهوات”، ثم يقول “إنك إذا ما تفرست في رجال المدن، فسوف تشهد بأنهم لا يرون في الأرض شيئا يفضل لقاء امرأة. في أغوار أرواحهم ترسبت الأقذار، وأشقاهم من تمرغ عقله بأقذاره.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©