السبت 18 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ميلان كونديرا.. أن تكون سيداً على كلماتك

ميلان كونديرا.. أن تكون سيداً على كلماتك
27 ديسمبر 2018 02:10

ترجمة: أمين صالح

جئت إلى ما سوف يكون اللقاء الأول، من لقاءات عدة، مع ميلان كونديرا، وأنا توّاق إلى التصديق على أن الشعبية الساحقة التي حظي بها واحد من أكثر روائيي أوروبا أهميةً، كان ناشئاً، جزئياً على الأقل، عن شيء أقل عقلانية، أقل وعياً لذاته، من ذلك الذي، من حين إلى آخر، يظهر ليوجّه فنه العقلاني البالغ. جئت قاصداً اكتشاف القوى الواسعة الخيال التي منحت شكلاً تصويرياً ولغوياً استثنائياً لأكثر المبادئ جوهريةً، وأكثر العلاقات الأساسية رهافةً وحميميةً في التفاعل الإنساني.
أن توقّر الفنان يعني أن توقّر فنه وليس شخصه. الاثنان قد يتصلان وقد لا يتصلان. في أحوال كثيرة هما لا يتصلان، والمرء قد يشعر بالانخداع. إن أي احتمال لخيبة الأمل، في هذه الحالة، تعرّض للإقصاء في الحال، حيث إن الكاتب، من خلال بساطة إجاباته (التي هي غالباً أسئلة في حد ذاتها) والرفض الثابت، حتى للحظةٍ، للتمترس خلف أي نوع من البلاغة السطحية، كشف عن انسجام شخصه مع كمال فنه، هذا الفن الذي تكمن أهميته بالضبط في وضع أكثر المعضلات الميتافيزيقية اعتيادية، والحالات الوجودية، ضمن سياقات اجتماعية تاريخية. على الرغم من تبجيله للخصوصية، إلا أن كونديرا كان راغباً في مناقشة مجموعة متنوعة من الموضوعات طوال لقاءاتنا. إن مجال وغاية المقابلة، المستمدة جوهرياً من محادثاتنا، خضعت للتنقيح خدمةً للمصلحة المشتركة في تعيين وتوضيح عددٍ من نقاط الاهتمام الملموسة، وليست بالضرورة تلك المتصلة.
* أود أن انتهز فرصة هذه اللقاءات معك لتوضيح عددٍ من النقاط المعينة.. ولأبدأ مع ما جاء في كتابك «فن الرواية» بشأن المقابلات الصحفية، فقد وجّهت إدانة صريحة إلى المقابلة التي تتم ممارستها على نحو تقليدي، وبطريقة حاسمة جداً كرّرت قرارك بعدم الموافقة على إجراء أي مقابلة مع أي جهة ما لم تحترم حقوقك في النشر.
أنا أتفهم إحساسك بالخيبة والإحباط تجاه الصحفيين الذين، في تجاهل أو استخفاف تام للعواقب المحتملة، يحرمون الكتّاب من أي فرصة لمراجعة وتنقيح أقوالهم وملاحظاتهم قبل نشرها. وأنا أقدّر تمييزك بين الحوار، حيث الأخذ والعطاء وتبادل الآراء والمساهمة الصادقة في الأفكار بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك، والحديث الصحفي حيث تُطرح فقط تلك الأسئلة ذات الأهمية بالنسبة لمن يجري المقابلة، ولا تُنسخ إلا تلك الأجوبة التي تخدم غرضه.. كل هذا غالباً ما يكون في سياق مختلف عما ألهمها في المقام الأول.
مع ذلك، أتساءل إذا أنت، بطريقة أو بأخرى، تحرم قراءك في حصر المقابلات التي تسمح بها لأولئك الذين سوف تشاركهم في تحريرها؟
** المقابلات، كتلك التي تُنشر في الصحافة، هي مجرد نقل مادة مختزلة أو مسجلة إلى الكتابة العادية، هي مجرد ترجمات تقريبية لما قاله الكاتب الذي أجريت معه المقابلة. الأمر سوف لن يكون بهذه الدرجة من الجدية والخطورة لو لم يستشهد أحد بأقوالك. لكن عندما تكون كلماتك موضع اقتباس واستشهاد من قِبل الآخرين، من الأكاديميين أو النقاد، فسوف يكون الوضع مختلفاً. سوف يُنظر إلى الكلام المطبوع باعتباره من صياغتك، من طريقتك في التعبير.. في حين أن المادة المطبوعة قد تفتقر إلى الدقة والصحة ومتانة التعبير.
ذات مرّة نُشرت لي مقابلة احتوت على أخطاء وعلى أفكار هي ليست أفكاري، وآراء لم أصرّح بها. وعندما قدمت احتجاجاً على ذلك، جاءني الجواب بأن الصحفي يحتفظ بالاستشهاد. عندئذ فهمت شيئاً واحداً بسيطاً: المؤلف، ما إن يورد الصحفي أقواله، فإنه لا يعود سيّداً على كلماته. إنه يفقد حقوق المؤلف في ما يقوله. هذا بالطبع غير مقبول. والحل سهل وأرجو أن يكون مقبولاً لديك: لقد التقينا، أنا وأنت، تحدثنا مطولاً وبتفصيل تام، اتفقنا بشأن الموضوعات التي تهمنا، وأنت أعددت الأسئلة، وأنا أعددت الأجوبة، وفي النهاية أضفنا حق التأليف والنشر. بهذه الطريقة، كل شيء يبدو على ما يرام.
هذا يبدو لي معقولاً تماماً. في الواقع، لا أستطيع أن أرى ما يمكن أن يكون مطلوباً أكثر من ضمان الموثوقية التي يوفّرها حق النشر.

ما هي أوروبا المركزية؟
* لقد أثرت العديد من النقاشات عن أوروبا المركزية. كل قصصك تدور أحداثها في تشيكوسلوفاكيا، وحتى في أعمالك النظرية، مثل كتابك «فن الرواية»، أوروبا المركزية هي مهمة جداً. هل يمكنك أن توضح ما يمثّله مفهومك عن أوروبا المركزية؟ ما هي الحدود الخارجية الحقيقية؟
** دعنا نبسّط المسألة، التي هي ضخمة، ونحصر أنفسنا ضمن حدود الرواية. هناك أربعة روائيين عظام: كافكا، بروخ، موسيل، جومبروفيتش. أسمّيهم «نجوماً لامعة متألقة» بين روائيي أوروبا المركزية الكبار. منذ مارسيل بروست، لا أستطيع أن أرى أي شخص ذي أهمية أعظم في تاريخ الرواية. من دون معرفتهم، ليس هناك الكثير من الرواية الحديثة يمكن أن تكون مفهومة. بإيجاز، هؤلاء المبدعون حداثيون، والذي يعني أنهم متّقدون بفعل البحث عن أشكال جديدة. في الوقت نفسه، هم مجرّدون كلياً من أي أيديولوجيا طليعية (الإيمان بالتقدّم، بالثورة، وغيرهما) والتي منها نلحظ رؤية أخرى لتاريخ الفن وتاريخ الرواية: إنهم لا يتحدثون أبداً عن ضرورة التغيّر الراديكالي، لا يعتبرون الإمكانات الشكلية للرواية مستنفدة. إنهم يريدون فحسب تكبيرها راديكالياً.
من هذا أيضاً تنشأ علاقة أخرى مع ماضي الرواية. ليس ثمة أي ازدراء عند هؤلاء الكتّاب للتقليد والعرف، بل اختيار آخر للتقليد: هم جميعاً كانوا مفتونين بالرواية التي سبقت القرن التاسع عشر. أنا أسمّي هذا العصر الفترة الأولى بين شطريّ تاريخ الرواية. هذا العصر وجمالياته كان تقريباً منسيّاً، محجوباً، خلال القرن التاسع عشر. إن «خيانة» هذه الفترة حرمت الرواية من جوهرها المتسم باللهو والهزل (هذا الذي نجده على نحو أخّاذ ومدهش في أعمال رابليه، سرفانتس، ستيرنه، ديدرو)، وقلّلت من قيمة دور ما أسميه «التأمل الروائي».
لتفادي أي سوء فهم هنا، عندما أقول التأمل الروائي، فإنني لا أفكر في ما تسمى «الرواية الفلسفية» والتي تعني وضع الرواية في مرتبة أدنى من الفلسفة، وتعني التوضيح الروائي للأفكار. هذا نجده عند سارتر. وعلى نحو أكثر عند كامو، خصوصاً في روايته «الطاعون». هذه الرواية ذات الدرس الأخلاقي هي تقريباً نموذج لما لا أميل إليه. إن غاية موسيل أو بروخ مختلفة تماماً: إنها ليست لخدمة الفلسفة بل، على العكس، للاحتفاظ بالحقل الذي، حتى ذلك الحين، حجزته الفلسفة لنفسها. هناك معضلات ميتافيزيقية، معضلات الوجود الإنساني التي لم تعرف الفلسفة قط كيف تمسك بها وتدركها في كل حالاتها الملموسة، ووحدها الرواية استطاعت الإمساك بها وفهمها. هؤلاء الروائيون (خصوصاً بروخ وموسيل) جعلوا من الرواية تأليفاً فكرياً وشعرياً سامياً، ومنحوها مرتبة عالية وبارزة في الوحدة الثقافية الكاملة.
هؤلاء المبدعون معروفون بنسبة ضئيلة في أميركا، الأمر الذي كنت اعتبره فضيحة ثقافية. لكن في الواقع هي مسألة سوء فهم جمالي والذي يمكن إدراكه حين نأخذ بعين الاعتبار التقليد الخصوصي للرواية الأميركية. في المقام الأول، أميركا لم تعش تلك الفترة من تاريخ الرواية. في المقام الثاني، في الفترة ذاتها التي كانت أوروبا المركزية تكتب روائعها الأدبية، كانت أميركا تكتشف «نجومها اللامعين» العظام، أولئك الذين سوف يمارسون تأثيراً على العالم كله، نجوم على شاكلة همنجواي، فولكنر، دوس باسوس. لكن جمالية أعمالهم تتعارض كلياً مع جمالية موسيل، على سبيل المثال: التدخّل التأملي للمؤلف في مجرى السرد لروايته يبدو في هذه الجمالية ميلاً عقلياً معزولاً، بوصفه شيئاً دخيلاً وخارجياً على الجوهر الفعلي للرواية.
أتذكّر عندما نشرت جريدة The New Yorker الأجزاء الثلاثة الأولى من «خفة الكائن التي لا تُحتمل»، قامت بحذف الفقرات الخاصة بالعودة الأبدية عند نيتشه! رغم أن ما أقوله عن العودة الأبدية لا علاقة له بالخطاب الفلسفي بل متصل بالمفارقات التي هي ليست أقل روائية من وصف الحدث أو من الحوار.

السقف الذي يظل رأسي
* هل أفهم من كلامك أن هؤلاء الكتّاب مارسوا تأثيراً ملموساً عليك؟
** لا، لم يؤثروا فيّ. إنه شيء آخر: أنا أوجد وأحيا تحت السقف الجمالي ذاته الذي عاشوا تحته. ليس تحت سقف مارسيل بروست أو جيمس جويس. ليس تحت سقف همنجواي (على الرغم من إعجابي الشديد به). في الواقع، الكتّاب الذين أتحدث عنهم لم يتأثّر أحدهم بالآخر. بل لم تكن بينهم مشاعر ودّ متبادلة. بروخ كان ينتقد موسيل بشدّة. موسيل كان يبغض بروخ ويتكلّم عنه ببذاءة. جومبروفيتش لم يكن يحب كافكا ولم يتحدث قط عن بروخ أو موسيل، وهو نفسه على الأرجح كان مجهولاً بالنسبة للثلاثة. ربما لو علموا إنني أجمعهم معاً في موضع واحد لاستشاطوا غضباً مني. ربما سيكون معهم حق في ذلك.. ولعلي اخترعت هذه الهالة التي ضمت هؤلاء معاً لكي أكون قادراً على رؤية السقف الذي يظلّل رأسي.

* كيف يتصل مفهومك لأوروبا المركزية بالعالم السلافي، بالثقافة السلافية؟
** هناك، بالطبع، وحدة لغوية للغات السلافية. لكن لا توجد أي وحدة ثقافية سلافية. لا وجود لأدب سلافي. لو كانت كتبي كائنة في بيئة سلافية لما تعرّفت على نفسي. إنها بيئة اصطناعية وزائفة. البيئة الأوروبية المركزية (التي هي، لغوياً، ألمانية سلافية هنغارية) هي، بالنسبة لكتبي، بيئة صحيحة أكثر. لكن حتى هذه البيئة سوف لن تبلغ الكثير لو أردنا أن ندرك معنى وقيمة رواية ما. سوف لن أكفّ عن ترديد أن البيئة الوحيدة التي يمكن أن تكشف معنى وقيمة العمل الروائي هي بيئة تاريخ الرواية الأوروبية.

ماذا عن الرواية الأميركية؟
* أنت باستمرار تشير إلى الرواية الأوروبية.. هل هذا يعني أن الرواية الأميركية، بالنسبة لك، هي عموماً أقل أهمية؟
** أنت محق في ذكر هذا. شخصياً يزعجني حقاً عدم قدرتي على إيجاد المصطلح المناسب. لو قلت «الرواية الغربية» فسوف يتهمونني بتجاهل الرواية الروسية. ولو قلت «الرواية العالمية» فسوف أحجب حقيقة أن الرواية التي أتحدث عنها هي تلك المرتبطة تاريخياً بأوروبا. لهذا السبب أقول «الرواية الأوروبية». غير أني أفهم هذه الصفة بالمعنى الذي طرحه هوسرل: ليس كمصطلح جغرافي بل «روحي»، والذي يشمل دولاً أخرى. الرواية الأوروبية هي التاريخ الذي يمضي من سرفانتس إلى فولكنر.
* ألاحظ أن من بين الكتّاب الذين تذكرهم باعتبارهم ذا أهمية كبرى في تاريخ الرواية، ومن بين أولئك الذين تشير إليهم في موضع آخر في ما يتصل بتطور الرواية وعلاقتها بأي تاريخ ثقافي معيّن، لا توجد أية امرأة على الإطلاق. صحح لي إذا كنت مخطئاً، ليس هناك أي ذكر أو إشارة لأي كاتبة في مقالاتك أو مقابلاتك.. هل يمكنك تفسير ذلك؟
** ما ينبغي أن يثير اهتمامنا هو جنس الرواية وليس جنس كاتبها. كل الروايات العظيمة، كل الروايات الحقيقية، هي ثنائية الجنس.. بمعنى أنها تعبّر عن رؤيةٍ للعالم هي أنثوية وذكورية معاً. جنس المؤلفين كأفراد ماديين هو شأن خاص.
* كل رواياتك توثّق، على نحو مفعم بالحيوية، التجربة التشيكية. أتساءل إن كنت تشعر بالقدرة، في هذه المرحلة، على خلق عمل روائي ضمن بيئة اجتماعية تاريخية أخرى، كالبيئة الفرنسية مثلاً، علماً بأنك مستقر الآن في باريس.
** سوف نرى. في الوقت الحاضر، سأقول هذا فحسب: لقد عشت في تشيكوسلوفاكيا حتى بلغت الخامسة والأربعين من عمري. مسيرتي الحقيقية ككاتب بدأت وأنا في الثلاثين، وأستطيع القول إن الجزء الأكبر من حياتي الإبداعية يحدث، وسوف يحدث، في فرنسا. ارتباطي بفرنسا أكثر وأعمق مما كنت أظن.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©