الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشاعرات العربيات.. حظهنّ النقدي قليل!

الشاعرات العربيات.. حظهنّ النقدي قليل!
23 أغسطس 2012
ما خلا استثناءات نادرة، ظل إبداع المرأة الشعري أقل حظاً من قصائد الرجال على المستوى النقدي، وظللن يقبعن في الهامش الشعري أو الأدبي المنسي. وحتى أولئك اللواتي حصلن على الاهتمام من قبل الباحثين والدارسين فكثيراً ما تم الالتفات إلى سيرتهن الحياتية وعطائهن الاجتماعي. ومما يدلل على صحة هذا الأمر عدم وجود تراجم دقيقة لمعظمهن حيث لا يعثر الباحث في معاجم الشعراء والكتب التي اهتمت بالشعر على أكثر من سطرين أو ثلاثة عن الشاعرة في غالب الأحيان، وجلّ ما يكتب عنهنَّ يندرج في إطار المناسبة التي قيلت فيها القصيدة، ما يجعل ملاحقتهن في المتون التراثية أمراً شائكاً وصعباً في الوقت نفسه. يرى باحثون كثر أن ما وصل إلينا من أدب المرأة قليل جداً بالنسبة إلى أدب الرجال؛ عبر مسيرة الأدب العربي، ويرجع السبب في ذلك إلى النظرة التي ينظر بها إلى المرأة بصورة عامة، والتي تنعكس على ما تنتجه من الأدب أو أي عمل تقوم به، فالنظرة الدونية إلى الأدب المنتج من قبل النساء الشاعرات جعلت النقاد القدامى، يصفونه باللين وضعف الأسلوب حيث إنه لا يرقى إلى مستوى الأدب الذي تنتجه قرائح الرجال (!). وقيل في تفسير هذا الإهمال أن شعر النساء هو نظم من النوع الخفيف، فالمقطوعات التي تقولها المرأة لا تزيد على البيت والبيتين والثلاثة وبالتالي ليست لديها الاستمرارية والتواصل. ونسوا أن ظاهرة البيت الواحد أو البيتين لا تختص بالنساء فقط، بل تنسحب على شعر الرجال أيضاً لكن ذلك لم يعتبر عوراً ولا عيباً في تجارب هؤلاء الشعراء بل دُرِسوا ولقوا العناية النقدية بينما اعتبر منقصة عندما تعلق الأمر بالشاعرات، ولهذا قللوا من مكانته. وفي ظني أن القائلين بهكذا رأي لم يبحثوا جيداً في المعاجم والكتب التي اختصت بأخبار النساء، وهي في تقديري سبب من أسباب هذا الاستجهال النقدي للشعر النسائي، فالكتب المصنَّفة عن النساء جاء أكثرها في أخبار النساء، ومحاسنهن، وأحوالهن الاجتماعية، دون الاهتمام بالجانب الأدبي. ثم إن بعضهن اجترحن فيما قلنه من الشعر في هذه الأبيات القليلة جمالاً وفيراً، وكأنهنَّ أدركن زبدة الشعر أو بيت القصيد أو ما يسمى الآن الشعرية منذ وقت مبكر. وتركت لنا نخبة منهن قصائد تعد من عيون الشعر العربي خاصة في الرثاء والحب. أما الشواعر المكرسات نقدياً والمعروفات في المتون الشعرية العربية فهن من الشاعرات المجيدات أو من الطبقة الأولى من طبقات الشعراء بحسب التصنيفات الشعرية التي دأب النقد العربي القديم على سلوكها في تقييم الشعر والشعراء، ومن هؤلاء الخنساء، ليلى الأخيلية، رابعة العدوية، ولادة بنت المستكفي وغيرهن... وربما يقول قائل إن السبب في مجهولية التفاصيل الخاصة بهؤلاء الشاعرات يعود إلى تقاليد العرب وطبيعة تكوين المجتمع العربي التي لا تحبذ أن تشتهر المرأة أو تعرف، ولهذا ربما تكثر أسماء الشاعرات عبر الكنية وليس الاسم الصريح (أم فلان، امرأة فلان، بنت فلان، أخت فلان... إلخ).. وربما تلجأ الشاعرة إلى الاسم المستعار كما هي الحال حتى اليوم مع شاعرات يكتبن بأسماء مستعارة وبعضهن اشتهرن وذاع صيتهن بها. فهل كانت تلك حيلاً دفاعية لجأت إليها المرأة لتدافع عن وجودها الشعري وتحقق حضورها في الحياة الثقافية؟ لم لا.. بل ربما ذهبت الشاعرة إلى أبعد من ذلك، خاصة في موضوعة الحب والغزل، فخاطبت مجهولاً أو كنَّت (من كناية) عنه باسم جارية من جواريها. فهذه شاعرة مثل الزهراء الأعرابية وهي شاعرة من بني كلاب، كانت تحب الشاعر والمغني اسحق الموصلي وتراسله، تكنّي عنه في شعرها بـ جُمَل، ومما قالته: وَجْدي بجُمل على أني أجَمْجِمُهُ وجْد السَّقيم ببرءٍ بعد إدنافِ أو وجْد ثكلى أصاب الموت واحدها أو وجْد منشعبٍ من بين ألّافِ استلاب نقدي لقد واجهت المرأة الشاعرة الكثير من الصعوبات لكي تثبت حضورها في حقل يتسيَّد عليه الرجال، بل إن بعض المصطلحات النقدية التي يرتهن إليها الإنجاز الشعري للشاعر يستند إلى ملفوظات ومسميات ذات علاقة بالرجولة، فالعرب تقول قصيدة فحلة، وشاعر فحل، في إشارة إلى قوة الشعر وجزالته وبلاغته أو إلى تمكن الشاعر وإتيانه بالشعر الجيد، وهكذا تكون الفحولة التي تتصل اتصالاً وثيقاً بالذكورة إشارة واضحة إلى أن العرب اعتبروا الشعر فعلاً ذكورياً بامتياز. صحيح أن بعض النساء قد تقوله وتجيد فيه لكنه في الشكل العام يظل اهتمام الرجال. وقد تكرس هذا الأمر وشاع إلى الحد الذي جعل شاعرة تؤكد أنها وإن كانت في النساء “أنثى” إلا أن شعرها “رجل” كناية عن تمكنها وقدرتها على نظم الشعر الجيد الذي تقارع به الشعراء الرجال، لكن هذا كناية أيضاً على أنها مستلبة نقدياً وتطبق معايير نقد لا علاقة لها بالإبداع. رغم ذلك وغيره، يجد المتصفح لتاريخ الشعر العربي، قديمه وحديثه، حضوراً للمنجز الشعري نفسه، للأبيات والقصائد التي تحمل أسماء نساء، يستحق التوقف والدراسة. نشيد للحرية هذه السلطة التي يمارسها الرجل في كل نواحي الحياة بما فيها الشعر دفعت شاعرة مثل الزباء بنت عمير بن المورق، وهي من الشاعرات المخضرمات، لرفض الزواج الذي اعتبرته نقيضاً للحرية، فاختارت حريتها. قيل لها: “لو أنك تزوجت وأنت في عنفوان شبابك وصفو جمالك لعلمت لذة الحياة”، فقالت: “والله لأن أعيش في غير بدني لم تملكني يد ذي مال ولا صرعتني الرغبة في الرجال أحبّ إليّ من ملك الأرض وخزائن الأرض، ثم أنشأت تقول: أمِن بعد أن أمسي وأصبح حرّة وليس عليَّ للرجال يدانِ أصير لزوج مثل مملوكة له لبئس إذاً ما يكتب الملكانِ لَعيشٍ بضرّ أو بضنكٍ وحاجةٍ مع العزّ خيرٌ من صروف زمانِ والقصيدة لا تعكس فقط رغبة جامحة في تحقيق الذات عبر الحرية، بل تعكس أيضاً رهان الشاعرة عليها بكل ما تملك، فهي المبتغى والمأمول الذي يهون في سبيله كل شيء ويصغر كل ألم في سبيل ما تورثه الحرية للمرء من شعور بالعز. وثمة شاعرة أخرى هي عائشة بنت أحمد القرطبية رأت في الزواج قيداً لا تستطيع تحمله ورفضت الزواج رغم كثرة خطابها، وردت على أحدهم قائلة: أنا لبوة لكنني لا أرتضي نفسي مناخاً طول دهري من أحدِ ولو أنني اختار ذلك لم أجب طلباً وكم أغلقت سمعي عن أسدِ وحكاية ميسون بنت بحدل الكلبية زوجة معاوية بن أبي سفيان مشهورة، فقد عزفت هذه المرأة عن كل ملذات القصور وحياة الرفاهية لأنها اعتادت عيش الحرية في تلك الصحراء الواسعة التي لا تخنقها الجدران وتخفق فيها الرياح. ولم يطب لها المقام رغم كل مظاهر المدنية والعز التي تحيط بها في القصر المنيف. ولم تجد ما يترجم ولعها بالحرية وشوقها الى دارها وصحرائها ومفرداتها الأخرى سوى الشعر، فقالت هذه القصيدة الجميلة التي فارقها بسببها معاوية: لبيت تخفق الأرياح فيه أحبُّ إليَّ من قصر منيفِ ولبس عباءة وتقر عيني أحبُّ إليَّ من لبس الشفوفِ وأكل كسيرةٍ في كسرِ بيتي أحبُّ إليَّ من أكل الرغيفِ وأصوات الرياح بكل فجّ أحبُّ إليَّ من نقر الدفوفِ وكلب ينبح الطراق دوني أحبُّ إليَّ من قط ألوفِ وبكرٌ يتبع الأظعان صعبٌ أحبُّ إليَّ من بغل زفوفِ وخرقٌ من بني عمي نحيفٌ أحبُّ إليَّ من علجٍ عنوفِ فلما سمع معاوية هذه الأبيات قال: “ما رضيت ابنة بحدل حتى جعلتني علجاً عنوفاً وهي طالق ثلاثاً”. وأضاف البغدادي في أخبار النساء إن معاوية لما طلقها قال لها: “كنتِ فبنْتِ”، فأجابته: “ما سُررْنا ولا أسفنا إذا بِنّا”. أداة نقد وما دمنا في وارد الحديث عن النقد، فإن بعض الشاعرات انتقدن بالشعر ما لم يعجبهن، وعبرن عن رفضهن لظلم الولاة وما يذيقونه للناس من عسف. فهذه شاعرة تسمى الشلبيّة الأندلسية كتبت إلى السلطان تتذمر من والي بلدها وصاحب خراجها، وتذكره بحق الرعية: قد آن أن تبكي العيون الآبيةْ ولقد أرى أن الحجارة باكيةْ يا قاصد المصر الذي يرجى بهِ إن قدَّر الرحمن رفع كراهيةْ ناد الأمير اذا وقفت ببابهِ يا راعيا إن الرعية فانيةْ أرسلتَها هملاً ولا مرعى لها وتركتها نهب السباع العاديةْ خافوا وما خافوا عقوبة ربِّهم والله لا تخفى عليه خافيةْ ثم ألقت قصيدتها يوم جمعة على مصلى المنصور، فلما قضى الصلاة وتصفحها بحث عن القضية فوقف على حقيقتها. وأمر للشلبية بصلة، ثم عاقب الوالي. مسرودة الخناصر أما على الصعيد العام، والأحداث التي شهدتها البلاد وأيام القبائل وحروبها فللمرأة معها مواقف شعرية كثيرة تمتلئ بها الكتب التراثية التي تروي قصص العرب وأيامهم. حيث وجدت المرأة في الشعر متنفساً لتحقيق ثأرها والحصول على غايتها. وربما أخفقت وظلت أبياتها مجرد كلمات تؤرخ الواقعة، وربما أثمر شعرها موقفاً إيجابياً وتحققت أغراضها. يروى أن خويلة الرئامية القضاعية، وهي شاعرة من شاعرات الجاهلية، مقلّة في النظم. كان لها أمةٌ من مولدات العرب تسمى زَبْراء. وكان بنو ناعب وبنو داهن متظاهرين على بني رئام. فاجتمع بنو رئام في عرس لهم وهم سبعون رجلاً فأكلوا وشبوا. وكان زبراء كاهنة فقالت لخويلة: انطلقي بنا إلى قومك أنذرهم. فأقبلت خويلة تتوكأ على زبراء. فلما أبصرها القوم قاموا إجلالاً لها. فقالت لهم: هذه زبراء تخبركم عن أنباء قبل انحسار الظلماء. فقالوا: ما تقولين يا زبراء؟ قالت: إني لأشم ذفر (عرق) الرجال تحت الحديد. فصدقها بعضهم وكذبها بعضهم. أما الذين صدقوها فانصرفوا وأما الذين كذبوها فرقدوا في مشربهم، فطرقتهم بنو داهن وبنو ناعب فقتلوهم. وأقبلت خويلة مع الصباح فوقفت على مصارعهم ثم عمدت إلى خناصرهم فقطعتها وانتظمت منها قلادة وألقتها في عنقها. وخرجت حتى لحقت بمرضاوي بن سعوة المهري وهو ابن أختها فأناخت بفنائه، وأنشدت: يا خير معتمد وأمتع ملجإ وأعزَّ منتقم وأدركَ طالبِ جاءتك وافدة الثكالى تغتلي بسوادها فوق الفضاء الناصبِ هذي خناصر أسرتي مسرودة في الجيد مني مثل سمط الكاعبِ فأبردْ غليل خويلة الثكلى التي رميتْ بأثقل من صخور الصاقبِ وقد أثر شعرها في ابن أختها تأثيراً كبيراً فخرج مع رجاله فطرق ناعباً وداهن فأوجع فيهم. ولقد استطاعت هذه الشاعرة أن تصوغ ألمها وحزنها وقهرها في تعبير فني جمالي ذو سوية عالية، واجترحت صوراً شعرية مبتكرة، وجديدة. ومن اللواتي اشتهرن بشعرهن في المعارك والأحداث العامة التي شهدتها القبائل صفية بن ثعلبة الشيبانية وتلقب بـ “الحُجَيْجَة”، وهي من بني شيبان. استجارت بها “الحُرَقَةْ” وهي هند بنت النعمان فأجارتها، وقامت إلى قومها تعلمهم هذه الإجارة ضد كسرى وجيوشه بقولها: أحيوا الجوار فقد أماتتهُ معاً كل الأعارب من بني شيبانِ ما العذر؟ قد لفّت ثيابي حرَّة مغروسة في الدر والمرجانِ بنت الملوك ذوي الممالك والعلى ذات الحجال وصفوة النعمانِ وكانت نتيجة ذلك أن قام بنو شيبان بإجارتها وحاربوا جنود العجم وكسروهم، فقالت في ذلك قصيدة أخرى، وتوالت الأحداث وفي كل موقف لها قصيدة. وقد جمع لها بشير يموت في كتابه “شاعرات العرب في الجاهلية وصدر الإسلام” في هذه الموقعة وحروبها فقط عشرين قصيدة فيها الفخر والمديح والوصف والـتأمل في الأقدار وحكمتها في سبك متين، وألفاظ جزلة: أفٍ لدهرٍ لا يدوم سرورُهُ ولخص عيشٍ غضهُ يتنكدُ ما الدهر إلا مثل ظلٍّ زائلٍ وبدور شمس فارقتها الأسعُدُ وفي كتاب الأحداث الكبرى أيضاً حفظ لنا التاريخ موقف خولة بنت الأزور عندما وقعت في الأسر، كما حفظ لنا شعرها الذي حفز رفيقاتها على الخلاص من الأسر في موقعة صحورا، حيث وقفت في النساء وكانت قد أُسِرت معهن فأخذت تثير نخوتهن قائلة: خذن أعمدة الخيام وأوتاد الأطناب لنحمل على هؤلاء اللئام. فتناولت كل واحدة منهن عموداً، وصحن صيحة واحدة وتتابع وراء خولة حتى تحررن من أسر الروم وخرجن وهي تقول: نحنُ بناتُ تُبَّع وَحِمْيَرْ وضَربُنا في القوم ليس يِنْكَرْ لأنَّنا في الحربِ نارٌ تُسْعَرْ اليومَ تُسقَوْنَ العذابَ الأكبرْ عِبره وعَبرة في متون قصائدهن حكم لا تنتهي، وعبر تميط عنها اللثام صورة شعرية هنا أو صياغة بليغة هناك. وربما رافقت العِبرة (بكسر العين) العَبرة (بفتحها) في مدائحهن العالية للأحبة ومراثيهنّ لمن قضوا.. ومظاهر الحكمة في شعر النساء كثيرة ومتعددة. لقد كان الشعر ملاذ المرأة الشاعرة في نكباتها الخاصة والعامة، يبوح بما في الصدور، وينفس عن القلب المكلوم في حكمة بليغة، تستقرئ عبر الدهر وتقف عند الثاويات من عجائبه في تشبيه جميل يصور حال من ذلَّ بعد عزٍّ وتخلى عنه الأصحاب والخلان بحال العصافير التي تفرّ مسرعة إذا رأت صقراً، كناية عن غدر الزمان وغدر الناس في الوقت نفسه.. وذلك طبع الزمان مذ خلق الله الأرض يتقلب ويتغير فيتقلب معه الأصحاب النفعيون. تقول بثينة بنت الخليفة محمد بن عباد المعتمد على الله: ما يعلم المرء والدنيا تمرُّ بهِ بأن رفَّ ليالي الدهر محذورُ بينا الفتى مترد في مسرته وافى عليه من الأيام تغييرُ وفرَّ من حوله تلك الجيوش كما تفرّ إن عاينت صقراً عصافيرُ وبثينة هذه شاعرة وأديبة أندلسية شهد لها مجايلوها برقة شعرها وجودة سبكها فضلاً عن سرعة بديهتها، ولما دارت الدائرة على والدها الخليفة اشتراها أحد تجار إشبيلية وأراد أن يزوجها لابنه حين عرف من هي حسباً ونسباً، وهي تروي ما حدث لها في شعر حزين يقطع الأكباد. لا تنكروا أني سُبيتُ وأنني بنت لملكٍ من بني عباد ملك عظيم قد تولى عصره وكذا الزمان يؤول للإفساد لما أراد الله فرقة شملنا وأذاقنا طعم الأسى عن زاد قام النفاق على أبي في مُلكه فدنا الفراق ولم يكن بمراد فخرجت هاربة فحازنيَ امرؤ ما صانني إلا من الإنكاد إذ باعني بيع العبيد فضمَّني لم يأتِ في إعجاله بسداد وأرادني لنكاح نجل طاهر حسن الخلائق من بني الأنجاد فعساكَ يا أبتي تُعرفني به إن كان ممن يرتجى لوداد وعسى رميكية الملوك بفضلها تدعو لنا باليمن والإسعاد! في هذه القصيدة نستشعر ألم الشاعرة وحكمتها حيث تجتمع العِبرة المستخلصة من خبرة غير عادية عاشتها الشاعرة والعَبرة التي تخنق الصدر لما آلت إليه حالها. وما رميكية سوى أمها زوجة المعتمد بن عباد التي يفترض أن تكون بجانبها لو كان الحال طبيعياً كما هي عادة الأم مع ابنتها عندما تتزوج، ولسان حالها يقول في سخرية مبطنة كأن كل شيء على ما يرام ولا ينقص سوى التمنيات باليمن والسعادة!. أما من الناحية الفنية فهي تأتي بقصة شعرية متصلة المعاني، متسلسلة الأفكار، وتختمها بسخرية مرَّة مما يجري لها وحولها، فقد بيعت وهي بنت الخليفة مع الجواري والإماء. ومن الشاعرات اللواتي اشتهرن بالحكمة والتأمل في شعرهن: جمعة بن الخس وهند بنت الخس وهما أختان تصفهما الكتب بأنهما من فاضلات النساء. قصائدهن طويلة، ولفظتهن ذات إيحاء، وفي شعرهن قوة وجزالة. تقول جمعة بنت الخس: أشدُّ وجوه القول عند ذوي الحِجا مقالةُ ذي لب يقول فيوجزُ وأفضل غُنْم يستفاد ويبتغى ذخيرة عقل يحتويها ويحرزُ وخير خلال المرء صدق لسانه وللصدق فضل يستين ويبرزُ وإنجازك الموعود من سبب الغنى فكن موفياً بالوعد تعطي وتنجزُ ولا خير في حرٍّ يُريكَ بشاشة ويطعن من خلفٍ عليك ويلمزُ إذا المرء لم يسطِعْ سياسة نفسه فإن به عن غيرها هو أعجزُ والقصيدة طويلة وفيها أبيات سرت بين الناس مسرى المثل. وإذا كانت تعتمد في نسج هذه القصيدة على العبرة والحكمة فإنها تجنح في قصائد أخرى إلى الصورة الشعرية والتشبيه والاستعارة والكناية وغيرها من ضروب البلاغة التي كانت ترصع القصيدة الجاهلية وتعتبر من جمالياتها: رأيت بني الدنيا كأحلام نائمٍ وكالفيء يدنو ظله ثم يَقلصُ وكل مقيم في الحياة وعيشها فلا شك يوماً أنه سوف يشخصُ إلى أن تقول: لقد أفسد الدنيا وعيش نعيمها فجائع تترى تعتري وتنغصُ ألا ربَّ مرزوق بغير تكلف وآخر محروم يجدّ ويحرصُ وتنظم أختها هند بنت الخس على النحو نفسه، ويمتلئ شعرها بالحكمة والحث على فضائل الأخلاق، والتصرف بتدبر، واستخلاص العبر والدروس مما يجري في الحياة: لقد أيقنَتْ نفس الفتى غيرَ باطلٍ وإن عاش حيناً أنه سوف يهلكُ ويشرب بالكأس الزعاف شرابُها ويركب حدَّ الموت كرهاً ويسلكُ وكم من أخي دنيا يثمِّر ماله سيورث ذاك المال رغماً ويتركُ عليك بأفعال الكرام ولينِهمْ ولا تك مشكاساً تلج وتمحكُ ولا تك مزاحاً لدى القوم لِعبةً تظل أخا هزء بنفسك يضحكُ تخوض بجهلٍ سادراً في فكاهة وتدخل في غيّ الغواة وتُشرَكُ ومن قصص الحكيمات ما يروى عن حذام بنت الريان، وهي شاعرة، جاهلية، يمانية، يضرب بها المثل في صدق الخبر، قيل إن عاطس بن خلاج زحف على أبيها في قبائل حمير وخثعم وجعفيّ وهمدان، فلقيهم أبوها فاقتتلوا، فشعر الريان بضعف جماعته فرحل بهم ليلاً، فجدَّ عاطس في طلبهم، فلما كان قريباً منهم رأت حذام أسراباً من القطا مقبلة عليهم، وسرعان ما هداها الذكاء إلى أن القطا لم تطر إلا لأن هناك ما أفزعها، فاستنتجت أن الأعداء على الأبواب، فخرجت تنشد: ألا يا قوميَ ارتحلوا وسيروا فلو تُرك القطا ليلاً لناما وسمع ذلك زوجها لجيم بن صعب فأنشد: إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام فلجأ قومها إلى واد بعيد عن عاطس وجماعته، ونجوا من شره، وقد ضربت العرب بصدقها المثل. وإذا كانت حذام وجدت من يصدقها ويعمل بنصحها فإن شاعرة أخرى لا تقل عنها ذكاء وحسن بصيرة هي زرقاء اليمامة لم تجد من يصدقها وكانت النتيجة خسراناً مبيناً. فقد رأت زرقاء جموع حسان بن تبع الحميري عدو قبيلتها وهي تسير وراء الشجر، وكانت مضرب المثل في حدة النظر وجودة البصر. وقيل إنها كانت تبصر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام. لكن قومها لم يصدقوها واستهزأوا بقولها عن الشجر الذي يمشي في الليل، فاجتاحهم حسان وصدق شعرها: خذو حذارَكم يا قوم ينفعكم فليس ما قد أرى بالأمر يُحتقرُ إني أرى شجراً من خلفها بشرٌ وكيف تجتمع الأشجار والبشرُ؟ ثوروا بأجمعكم في وجه أوَّلهم فإن ذلك منكم فاعلموا ظفَرُ ضموا طوائفكم من قبل داهية من الأمور التي تخشى وتُنتظَرُ وفي رواية أخرى أنها قالت: أقسم بالله لقد دبَّ الشجرْ أو حِميرٌ قد أخذت شيئاً يُجَرّ وتتوالى النماذج وهي كثيرة، لكننا حاولنا في هذه المقاربة أن نثبت الأسماء الشعرية الأخرى، الغائبة أو المغيبة، على أن تكون لنا وقفة مع الأخريات في قابل الأيام...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©