الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

هكذا يفكّر البابا

هكذا يفكّر البابا
7 فبراير 2019 02:01

بالنيابة عن العرب جميعاً، استقبلت دولة الإمارات العربية المتحدة أهم شخصية دينية في العالم وأكثرها قوة ونفوذاً. ذلك أن البابا فرنسيس لا يمثل فقط أكثر من مليار مسيحي كاثوليكي منتشرين في شتى أنحاء العالم، وإنما يمثل أيضاً شخصية كاريزمية تقف على رأس الغرب كله من الناحية الروحية والأخلاقية والمعنوية. جميعهم ينحنون أمامه من ترامب إلى ميركل إلى بقية القادة والرؤساء الكبار.

من هنا أهمية هذا اللقاء في أبوظبي التي تحوّلت إلى عاصمة لكل العرب. إنه لقاء القمة بين الإسلام والمسيحية. وليس غريباً أن يحصل هذا اللقاء في أبوظبي بل الغريب ألا يحصل فيها. فالإمارات اختارت خط الوسطية والحوار والتنوير العقلاني في علاقاتها مع الغرب والشرق على حد سواء. هذا في حين أن بعض الآخرين اختاروا خط الإسلام السياسي و«الإخوان المسلمين» الذين يبثون أفكار الكراهية والتعصب بين الأمم والشعوب، ويجعلوننا في حالة حرب مع العالم كله. وهذا مناقض لمبادئ الإسلام السمحة وللآية القرآنية الكريمة: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم».
وبهذا الصدد كتبت مجلة «جون أفريك» الفرنسية تقول: «البابا فرنسيس يقوم بزيارة تاريخية للإمارات العربية المتحدة. وهي أول زيارة له إلى شبه الجزيرة العربية. وسوف يحاول من خلالها تقوية العلاقات مع الإسلام. ومعلوم أنه جعل من عملية التقارب بين الإسلام والمسيحية حجر الزاوية لعهده البابوي. ولا يمكن لهذه الزيارة أن تحصل في وقت أفضل من هذا الوقت لسبب بسيط هو أن الإمارات أعلنت أن سنة 2019 ستكون عام التسامح في البلاد. ومعلوم أنه يوجد في الإمارات حوالي المليون مسيحي كاثوليكي من الجاليات المغتربة». هذا وشارك البابا في «المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية» برعاية صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، بحضور فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف. فهو يمثلنا نحن المسلمين جميعاً مثلما أن بابا روما يمثل المسيحيين. وذلك بالإضافة إلى بقية العلماء الأجلاء والشيوخ الكبار في الإمارات.

أفكار البابا
وبهذه المناسبة أود استعراض أفكار هذا البابا ومقولاته وأطروحاته من خلال آخر كتاب فرنسي صدر له أو عنه. وقد شغلني هذا الكتاب الضخم على مدار الأشهر الماضية وعدت إليه أكثر من مرة واستمتعت به كل الاستمتاع. فهو يتحدث عن كل شيء: عن الدين، والسياسة، والإسلام، والعرب، والمخاطر التي تتهدد الحضارة الغربية، والتراث والحداثة، والإيمان والفلسفة.. الخ. والكتاب كله عبارة عن حوار مطول بين الباحث الفرنسي دومنيك ولتون والبابا. والباحث المذكور هو مدير بحوث في المركز القومي الفرنسي للبحوث العلمية. وهو مؤلف أكثر من ثلاثين كتاباً مترجمة إلى عشرين لغة عالمية. وبالتالي فالرجل مفكر ضليع ولولا ذلك لما استقبله البابا في مكتبه في الفاتيكان وكرّس له كل هذه الساعات الطوال وهو المشغول جداً والمزحوم وقته بالمهام الكبرى والمواعيد العديدة مع قادة العالم. لقد كرّس له البابا اثنتي عشرة جلسة على مدار عام كامل لكي يسجل كلامه حرفياً وينشره بين دفتي كتاب.
وأهم ما أعجبني في كلامه هو قوله: لقد عاد زمننا إلى عبادة الأصنام! ويقصد بذلك عبادة المال والرأسمال والعجل الذهبي والشهوات الحسية الإباحية التي لا ضابط لها ولا رادع. لقد سقط الغرب في أيديولوجية شهوانية متطرفة وانزلاقات خطرة. ثم يضيف فوراً: ولكني أثق بالقادة الأوروبيين الشباب وأعتقد أنهم يختلفون عن الجيل السابق. من بين هؤلاء القادة أشعر بالاحترام والتقدير تجاه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. إنها قائدة فذة. كما وأشعر بالتقدير تجاه قائد اليونان حالياً أليكسيس تسيبراس. إنه واعد بالمستقبل بالإضافة إلى آخرين عديدين في إيطاليا وفرنسا وهولندا.. الخ. عندما زرت اليونان وجلبت معي بالطائرة من هناك اثني عشر لاجئاً سوريّاً كلهم مسلمون قال لي تسيبراس: أهم شيء يا قداسة البابا هو حقوق الإنسان والدفاع عن كرامة الإنسان أياً يكن عرقه أو دينه أو مذهبه. لا ينبغي أن نفرق بين هذا وذاك على أساس الدين أو المذهب. وقد أثر فيّ هذا الكلام كثيراً وعرفت عندئذ أنه قائد حقيقي.

العولمة الجائرة
ثم أضاف البابا فرنسيس يقول: لا يمكنني اختزال الإنسان إلى مجرد حيوان اقتصادي مادي شهواني. لا ريب في أنه يحق له إشباع حاجاته المادية والحسية. هذا شيء مفروغ منه. ولكنه لا ينبغي أن يبالغ في ذلك ويتطرف في الاتجاه المعاكس. لقد جن جنون الرأسمالية مؤخراً ولم يعد لها من رادع ولا وازع. وقد آن الأوان لأن تتدخل الدولة بغية تنظيم الأمور وإعادتها إلى نصابها عن طريق توزيع الثروة بشكل عادل أو شبه عادل على السكان. ومن غير المقبول أن تكون هناك شرائح جائعة أو شبه جائعة في بلدان غنية متخمة بالثروات كبلدان أوروبا الغربية. هذا دون أن نتحدث عن مئات الملايين من الجائعين في قارات أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. ثم قال البابا فرنسيس هذا الكلام المهم: هل تعلم بأنه يوجد في العالم اليوم 62 مليارديراً يمتلكون من الثروات أكثر من ثلاثة مليار ونصف المليار بشري! هل هذا معقول؟ هل هذا مقبول؟ هل تعلم بأنه يوجد 871 مليون جائع في العالم؟ هل تعلم بأنه يوجد 250 مليون مهاجر لا يمتلكون شيئاً ولا يعرفون إلى أين يذهبون؟
الكنيسة تدين هذه الرأسمالية المتوحشة التي لا قلب لها ولا إحساس. كما وتدين العولمة الجائرة المفرغة من النزعة الإنسانية التضامنية التي تزيد الغني غنى والفقير فقراً. ينبغي أن نفرق بين الحداثة الحقة/‏‏‏ والأيديولوجيا الحداثية المتطرفة. إنهما ليسا ذات الشيء على عكس ما يتوهم الكثيرون. فالحداثة شيء إيجابي، بل وحدث روحاني خطير في تاريخ الفكر. لقد قضت على الأصولية والفهم الخاطئ والمتعصب للدين. لقد آمنت بالتعددية والتنوع. وهذا من أعظم إنجازاتها. لقد برهنت على وجود مفهوم آخر للدين، مفهوم روحاني وأخلاقي تنويري. لقد أثبتت أن الإيمان بالله والعنف شيئان لا يستويان ولا يجتمعان. ولكن الأيديولوجيا الحداثوية خرجت عن الخط الصحيح. لقد خرج قطارها عن السكة وانزلقت انزلاقات خطيرة في السنوات الأخيرة. ولذلك فإني أنبه قادة الغرب عندما ألتقيهم إلى فداحة الثمن الباهظ لهذا الانحراف. ثم يضيف: ينبغي الاعتراف بأن الحداثة في أزمة حالياً. في الماضي كانت تعني التقدم والتطور والتحسن والآن تحولت إلى أيديولوجيا صلفة منغلقة على ذاتها. وهكذا وصلنا إلى الحداثة كأيديولوجيا أو أدلجة الحداثة. هذه ليست حداثة. هذه أيديولوجيا حداثوية. فرق كبير. لقد فقدنا البوصلة الأخلاقية في بلاد الغرب الإباحية. هل تعلم أن الصناعة البورنوغرافية هي إحدى أضخم الصناعات في العالم حالياً؟ إني أدعو الغرب للعودة إلى القيم الروحانية والأخلاقية العليا للدين والإيمان. وهي قيم تتجاوز الماديات. الماديات على الرغم من ضرورتها وأهميتها ليست كل شيء. لقد ضل الغرب الطريق.

النموذج الإماراتي
وأما فيما يخص البلدان العربية فيشيد البابا ببعض الدول الخليجية وعلى رأسها دولة الإمارات العربية المتحدة لأنها تسمح ببناء الكنائس والمعابد على أراضيها احتراماً للحريات الدينية للجاليات الكاثوليكية وغيرها، وتجسيداً لثقافة التسامح في أرقي معانيها... وهكذا تعاملنا بالمثل وبشكل تسامحي وانفتاحي حضاري. فنحن أيضاً نسمح ببناء المساجد للمسلمين على أراضينا احتراماً للجاليات المسلمة الكبيرة العائشة عندنا. كم هو عدد المساجد في إيطاليا أو فرنسا أو بلجيكا.. الخ؟ الله أعلم. يقال إنه في فرنسا وحدها يوجد ما لا يقل عن 2500 مسجد، ما بين كبير وغيره. ثم يضيف البابا هذه الفكرة المهمة جداً بل والحاسمة: ينبغي على إخواننا العرب والمسلمين أن يطبقوا المنهجية التاريخية النقدية على نصوصهم مثلما طبقناها نحن على نصوصنا المقدسة من توراة وأناجيل. فهذه هي الطريقة الوحيدة للخروج من ظلاميات العصور الوسطى والدخول في مناخ العصور الحديثة. هذه هي الطريقة الوحيدة التي ستجعل العالم الإسلامي يسير على طريق التطور والتقدم والنهوض.

ثقافة التقريب
وفيما يخص الحالة السورية يقول البابا هذا الكلام المهم الذي لا يتجرأ على قوله أي مثقف سوري أو عربي: هناك مشكلة طائفية متفاقمة في سوريا. وتنبغي معالجتها عن طريق سياسة التقريب بين المذاهب الإسلامية كما فعلنا نحن في أوروبا عندما قرّبنا وآخينا بين المذاهب المسيحية المتناحرة. فنحن أيضاً كأغلبية كاثوليكية كنا نحتقر الأقليات البروتستانتية عندنا ونزدريها. بل وكنا نقول إن البروتستانتيين كفّار سيذهبون جميعاً إلى الجحيم. وبالتالي فينبغي علينا استئصالهم من على وجه الأرض لتطهيرها من رجسهم. كل هذا حصل في القرون الماضية، في عصر الجهالات والعصبيات، إبان القرنين السادس عشر والسابع عشر. ولكنه انتهى كلياً لحسن الحظ في أوروبا لاحقاً بعد أن تطورت واستنارت. وسوف ينتهي في العالم العربي عندما تستنير الشعوب وتخرج من ظلاميات القرون الوسطى وعقلية «الإخوان المسلمين».

إقامة الجسور
وفي مكان آخر من هذا الكتاب القيّم والمكثف جداً يقول البابا ما معناه: إن أهم شيء هو أن نقيم جسوراً بين البشر المختلفين. هذا ما أحاول أن أفعله في كل مكان وبقدر الإمكان. ينبغي أن نقيم جسوراً بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين الذين كانوا أعداء ألداء في الماضي. وكذلك بين السُّنة والشيعة. وينبغي أن نقيم جسوراً بين المسلمين والمسيحيين. وينبغي أن نقيم جسوراً بين الغرب والشرق.. الخ. القطيعة العدائية هي سبب كل هذا الخراب والدمار. في العصور السابقة ما كان الناس ناضجين ولا مؤهلين لذلك. ولهذا السبب جرت الحروب المذهبية في أوروبا وأسالت الدماء أنهاراً كما يحصل حالياً بين المذاهب الإسلامية. ينبغي التنبيه إلى هذه الفكرة الأساسية: البشر لا يستطيعون أن يتطوروا قبل أن تنضج الظروف. ولهذا السبب فلا ينبغي أن نحاكم العصور السابقة بعقلية العصور اللاحقة. هذا خطأ وظلم. وهذا ما يدعوه المؤرخون المحترفون الكبار: المغالطة التاريخية. ينبغي أن نحكم على كل فترة من خلال معايير عصرها لكيلا نظلمها. لقد خضنا الحروب الدينية ضد بعضنا بعضاً باسم الدين وهذا خطأ فادح. هذا مضاد لروح الإنجيل ومبادئ الدين المثلى. ولكننا كنا متخلفين وجهلة وأميين آنذاك. ما كنا قد تطورنا وتعلمنا وتنورنا. ثم يختتم البابا كلامه قائلًا: أنا أول بابا من أصل غير أوروبي. أنا من أميركا اللاتينية كما تعلمون. وهي قارة عزيزة على قلبي. ولكن إذا كنت قد قد انتقدت أوروبا كثيراً في كلامي السابق فإني أعرف مدى أهميتها بالنسبة للعالم. فهي مهد الحضارة والنزعة الإنسانية والمنجزات العلمية والتكنولوجية على مدار أربعة قرون منذ عصر النهضة وحتى اليوم. وكل ما نرجوه هو أن تعود إلى المبادئ المثلى والقيم الإنسانية التي أسستها. فلا معنى لأي حضارة على وجه الأرض من دون قيم أخلاقية تضامنية ونزعة إنسانية.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©