السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

قـوة الأديان الضاربة

قـوة الأديان الضاربة
20 ديسمبر 2018 01:30

ترجمة وإعداد: أحمد فرحات

في حوار أجريته معه شخصياً في باريس في العام 1975، ونشرته مجلة «الكفاح العربي» اللبنانية في مارس من العام نفسه، قال وزير الثقافة الفرنسي الأسبق في أكثر من حكومة ديغولية، أندريه مالرو: «إن القرن المقبل هو قرن الأديان والصراعات فيما بينها» (يقصد قرننا الحالي بالطبع). ولما استفسرته عما يعنيه بكلامه المستهجن وغير المتوقّع وقتها، أجابني بالفم الملآن: «أقصد الأديان، بما هي أقنعة سياسية لحروب ومصالح الدول الاستعمارية المتشبّثة بمصالحها في المناطق المستحوذة عليها. وسيستخدم الغرب الاستعماري هذه الترسانة الإيديولوجية كأمضى سلاح بين يديه لاحقاً، خصوصاً في الدول الإسلامية الفقيرة منها والغنية، وكل بحسب ظروفه أو تناقضاته السوسيولوجية ومكوّناته الدينية والإثنية».
إذا كانت تنبؤات أندريه مالرو قد صحّت، وبتنا، بالتالي، نقرأ ترجمة وقائعها في قرننا الحالي، وعلى نحو أكثر احتداماً ودرامية على الأرض، فإن هذا الأمر مرشح، على ما يبدو، إلى مزيد من التفاقم والاتساع عالمياً، طالما صار «التديّن السياسي» عنصراً رئيساً على أجندات سياسات واستراتيجيات الدول الكبرى في هذا العالم.
واستتباعاً لذلك، نقدّم، هذه المرة، وجهة نظر فرنسية جديدة في الموضوع، وإن بصيغة بحث مختلفة، تقدمها الكاتبة الفرنسية دلفين أليس، أستاذة الدراسات الفكرية والاستراتيجية في جامعة شرق باريس - كريتاي، ونصّها أدناه مقتطف من كتاب «أوضاع العالم - 2017» الصادر حديثاً عن دار لاديكوفيرت الباريسية.
يبدو التفكير حول نفوذ الأديان في الإطار العالمي العام، وكأنه يتّسم بقطيعة بين العلوم الاجتماعية من جهة، وبين ما يصدر من تعليقات وشروحات على مجريات أحداث السياسة الدولية، فقد تابعت العلوم المذكورة ردحاً طويلاً رؤية تطوّرية ترى أن العلمنة والتحوّل نحو الدنيوي، سيكونان أحد الأمور التي سيفضي إليها تقدّم المجتمعات. أما التعليقات فتولي العامل الديني منزلة مهمة، وكثيراً ما تتناوله كمنوعة أو كمتغيرة مستقلة، من شأنها تفسير الاضطرابات المعاصرة. علاقة السببية البسيطة التي تربط التحديث بالعلمنة والدنيوية، التي أنشاها مؤسسو علم الاجتماع في حقبة الثورة الصناعية (أوغست كونت، إميل دوركهايم، ماكس ويبير) تعرضت لانتقادات كثيرة. غير أنها أناخت بثقلها على العلم السياسي، وبخاصة على العلاقات الدولية، التي تأخرت في أخذها للعامل الديني، بعين الاعتبار، وظلّت تنظر إليه زمناً طويلاً كأحد آثار العالم القديم وموروثاته. هذا الانصراف عن الاهتمام بالدين، لم يعد أمراً راهناً، إلا أنه يرتبط بالسياق الذي انبثقت منه ميادين علمية ترتبط أوثق الارتباط بالبناء السوسيو- تاريخي، أو الاجتماعي- التاريخي للدولة، وللنظم السياسية الحديثة. فقد التزم ملوك أوروبا عند نهاية القرون الوسطى، بالسير في سيرورة طويلة تهدف إلى إحالة النفوذ الديني إلى الحيّز الخاص أو «الفضاء» الخصوصي، لأن استقلاليته وطاقاته الاحتجاجية وطابعه العابر للأوطان وللقوميات، كانت كلها خصائص تتجاوزهم وتتعداهم. وهكذا فإن العلمنة والدنيوية، ظهرتا كشرط أساسي لتأسيس الدول كوحدات سياسية ذات سيادة، متموضعة في إقليم ومتمايزة، ثم خصوصاً كوحدات منعتقة من وصاية نظام ديني/‏‏‏‏‏ سياسي محيط. (أي من النظام الإمبراطوري البابوي في أوروبا ما قبل الويستفالية). وما يبدو اليوم من تزايد تعبئة المراجع الدينية في خطابات الهوية أو الخطابات «الهوياتية»، وفي العنف السياسي المعاصر، إنما يسير في الوجهة المعاكسة لمسار انعتاق الشأن السياسي إزاء السلطان الديني.
ولا شك أن من الشائك عزل الظاهرات التي تنتمي إلى نفوذ ذي نوعية دينية، وذلك لثلاثة أسباب رئيسة. فالهوية الدينية، بادئاً، تصعب على الإدراك لأنها تصوغ انتماءً جماعياً على أساس انتساب فردي وحميم، لا يسمح بقياس درجة صدق الفاعلين والفعاليات الذين يبررون التزاماتهم بها كمرجعية. ثم إن الأديان، ثانياً تتمايز بأشكال سيطرتها على الشؤون الزمنية، وأنماط تنسيقها مع الشيء السياسي، أو مع درجات مأسستها وتماسكها الداخلي. هذه الكثرة تجعل من كل تعميم أو من كل محاولة لإقامة علاقة سببية بين تقليد ديني أو سُنَّةٍ دينية، وبين ممارسة النفوذ الذي يفترض أنه ينبع عنها، عملاً سطحياً. وأخيراً، فإن من الصعوبة بمكان عزل العامل الديني في السياقات التي تتعبّأ فيها خطوط كثرة من المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ولأننا أخذنا هذه التحفظات بعين الاعتبار، فإن هذا الفصل سيعمد إلى تحديد ثلاث خصائص تميز النفوذ الديني هي أن سلطة الشأن الديني على الحلبة العالمية تجعل منه أصلاً ووسيلة من الأصول والوسائل السياسية، ونبضاً قوياً من نوابض الاحتجاج، ثم يتناول بعد ذلك ديناميات العولمة وتعبئات أو تحشيدات النفوذ الديني، ثم يعرض محاولات التنسيق بين الأديان وممثليها وفعالياتها على الصعيد العالمي، للتأكيد على خصوصية النفوذ الديني، التي تجعل كل محاولة لإلحاقه ببرنامج سياسي، محاولات واهمة، لاحتفاظه بنصيب راجح من الاستقلالية إزاء السلطة الزمنية.

خصائص النفوذ الديني
تفتح المقاربة «الدوركهايمية» للدين نافذة أولى على خصائص النفوذ الديني. فالدين عند إميل دوركهايم «هو نظام متماسك من المعتقدات والممارسات المتعلقة بالأمور والأشياء المقدسة، أي الأشياء المنفصلة المحظورة، التي توحد من ينتسبون إليها، في جماعة معنوية تدعى كنيسة». الديني يؤسس الهويات الجماعية على قاعدة المعتقدات، التي تتقاسمها جماعة من الجماعات، وهي معتقدات مقصورة في جوهرها على هذه الجماعة. وهو يستطيع الإسهام في إضفاء الشرعية، أو بالأحرى المشروعية على نظام سياسي، وكذلك على تعبئات وتحشيدات احتجاجية رافضة. غير أن إمكانية أن يجعل صاحب مشروع سياسي (ملتزم) من ذلك وسيلة وأداة، بالاستناد إلى قدرات الدين في إضفاء المشروعية، هي إمكانية تخضع لدرجة التماسك الخاصة بكل دين. ومن شأن هذا الحدّ أن يُضعِف فكرة النفوذ الخاصة بالديني على وجه العموم، ويفرض دراسته بشكل سياقي.
يُشكّل الديني مرجعاً لجهة الهوية، إن الفردية أو الجماعية، فهو يسهم فردياً في تحديد العلاقة بين ممثلي العالم الذي يحيط بهم، ويستطيع بالتالي أن يقود خياراتهم السياسية. البواعث والمحرّكات الدينية داخل التزام «توماس وودرو ويلسون» (الرئيس الـ28 للولايات المتحدة الأميركية) أو «المهاتما غاندي»، هي بواعث صريحة غير مستورة، غير أن الديني لا يمثل محركاً قوياً وباعثاً ذا بأس للنفوذ، إلا عندما يكون في أساس انتماءات جماعية.
التطابق بين الهوية الدينية والهوية السلالية- القومية أو العرقية الوطنية، كما هي الحال في «إسرائيل» أو في أرمينيا، يشكّل استثناء، ويسهم في تغذية التوترات مع الأقليات الموجودة في الإقليم المعني، إذ يصير الدين المرجع الرئيس للأفراد في ما عنى هويتهم عموماً، حين تضعف الانتماءات الأخرى، ولاسيما الانتماء بالمواطنة. وبهذا المعنى تصح الإشارة إلى الدور الذي لعبته المسيحية في سقوط الأنظمة الشيوعية الأوروبية في نهاية سنوات 1980. فقد كانت الكاثوليكية في بولونيا والأرثوذكسية في الاتحاد السوفييتي وفي بقية أوروبا الشرقية، تشكلان الملاذ الوحيد الذي يفلت، ولو جزئياً، من رقابة الدولة. ففي هذه الدوائر «الدينية» بخاصة، وجدت الموارد التي سمحت بتكوين حركات احتجاجية. وقد وجدت المنظمات الدينية نفسها تتعزّز وتتدعّم في الأماكن التي كانت الدولة فيها متحلّلة ومتفسخة، أو موضوع احتجاج ورفضٍ.
عندما تكون الهوية الدينية هي حامل أو عامل التماسك الاجتماعي الوحيد، ولاسيما في البيئات المتعددة الطوائف، فإنها تصبح مورد التعبئة والتحشيد العام الوحيد لأصحاب مشروعات الهوية، بحيث إنهم يستطيعون الاعتداد بها واللجوء إليها. وهكذا فإن المرجعية الدينية تستطيع أن تصبح عامل توتر، بل ومولِّدة لأعمال عنف، عندما يقود التطلع، باسم العلاقة مع القدسي، إلى النقاوة المفترضة، ويفضي إلى استبعاد واستثناء أولئك الذين لا ينتمون إلى المجموعة، ويجدون أنفسهم على هوامشها، أو يحاولون الإفلات منها.

وظيفة إضفاء مشروعية
حيازة الشرعية الدينية، المنبثقة من معرفة لا تطالها الدنيوية، والمؤسسة على علاقة يفترض أنها خاصة بالمجال القدسي، تعطي صاحبها سلطة على المؤمنين، تفلت في الحين نفسه من ضروب المنطق السياسي الزمني. وإذا كانت لا تفضي بالنفوذ الديني، ضرورةً ووجوباً، إلى التدخل في الشؤون الزمنية، إلا أن هذه المشروعية تمثل وسيلة سياسية، أو مورداً سياسياً مهماً، عندما تُـمكن تعبئتها من أجل دعم برنامج نظام سياسي، وهي يمكن أن تُؤدي خدمتها لنظام محافظ أو لنظامٍ ثوري، الأمر الذي يدفع هنا أيضاً إلى تلافي كل تعميم.
غير أن بوسع النفوذ الديني إضفاء المشروعية على طلب احتجاجي يعارض النظام السياسي القائم، بمشروعية مضادة مؤسّسة على القرب الخاص من المقدس، أو على نقاءٍ أعظم، غالباً ما يكون أكثر إقناعاً، لأنه لم يمر بالسياسي بعد، ولا جرّبه واختبره. وتشكل هذه القدرة على التعبئة والتحشيد، نبضاً احتجاجياً يزيد من قوته وأهميته أنه ليس محدوداً بحدود الجماعة الدينية أو الطائفة الدينية، خلافاً للنفوذ السياسي الذي يمارس في حيِّزٍ إقليمي محدود.

تعبئة عابرة للأوطان
لا تتطابق الطوائف الدينية مع الانتماءات القومية إلا استثناء، وإن فعلت، فعلى نحوٍ يعوزه التمام والكمال. البرامج أو جداول الأعمال (الأجندات) التي تعتبر دينية، ويحملها فاعلون أو فعاليات تدلي بهذه المشروعية و«تتذرع» بها، وهي تستطيع أن تعبّئ دعماً، وأن تجند تأييداً على أساس عابر للأوطان وللقوميات، ويتجاوز مصالح الأفراد الملموسة، أو علاقاتهم المباشرة مع أطراف النزاع المعني.
واقعة الاستناد إلى شبكات دينية تسمح للفاعلين الاحتجاجيين، أو الضالعين في نزاع، بأن يوفروا الانتشار والتأييد الشعبي لقضيتهم، وتتيح لهم تلقي ضروب الدعم الرمزي والمادي أو الإنساني والتقاطه. وعبور النزاعات للحدود الوطنية والقومية وتعدّيها لها، وتجاوزها عنها تجاوزاً تدخل فيه المتغيّرة الدينية، حتى عندما لا تكون هذه المتغيّرة في الأصل سوى عامل ثانوي، هو شاهدٌ على هذه الظاهرة. والتطبيق التدريجي لمرجعية الحرب المقدسة على الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، الذي كان منظوراً إليه في الأصل بنظرة دنيوية علمانية، يشكل مثالاً ساطعاً على ذلك.
وإذا كانت القراءة الدينية للأحداث، قد ظهرت في البداية كوسيلة أو كأداةٍ بالنسبة إلى الفعاليات والفاعلين الضالعين في النزاعات ذات المظهر الديني، إلا أنها تعود فتستحيل لاحقاً، وتفرض نفسها كواحدة من القسريات الكبرى التي تجعل الخروج المتفاوض عليه منها، أمراً بالغ الصعوبة. فالخروج المتفاوض عليه يفترض في واقع الأمر نقض العهد المقطوع بالنقاء الذي جرى قطعه للفاعلين المعبّئين المجندين على أساس المرجعية الدينية، ما يستحدث انشقاقات تهدّد استقرار أي اتفاق سلام ممكن كان. وحين تؤدي هذه الدينامية إلى تكوين مجموعات منشقة تجنِّد المرجع الديني، فإنها تصير أحد عوائق التوصل إلى مخرج للنزاع المتفاوض عليه، كما هي الحال في مقاطعة مينداناو في الفليبين مثلاً، حيث لا يزال يتعذّر إيجاد مخرج للنزاع هناك، على الرغم من الاتفاقات المتعاقبة منذ تسعينيات القرن الماضي، بين الحكومة و«جبهة مورو للتحرير الوطني»، ثم مع «جبهة مورو الإسلامية للتحرير». وهكذا، فإنهيتكشّف أن السلطان الديني، هو سلطان قاسر في ميله ونزعته إلى الاستقلال عن الشيء السياسي، من حيث أنه ينزع إلى الإفلات من الفعاليات والفاعلين الذين يدعون الانتماء إليه، عندما يجد هؤلاء أنفسهم في مواجهة قسريات تملي عليهم «سلوكاً آخر»
الممارسة المستدامة للسلطان الديني، وبخاصة عندما ينتشر على الصعيد العالمي، تفترض مأسسة لا يمكن أن تدَّعيها سوى قلة قليلة من الأديان، فضلاً عن أنه يمكن أن يتبيّن من ثمَّ، أنها مصدر ضعف. فالنتيجة المباشرة لتماسك الكنيسة الكاثوليكية العقائدي، الذي يتفرّد به الكرسي الرسولي، ويجري بثه عبر شبكة واسعة مركزية، أو تماسك التيار الشيعي في إيران عبر سلطة آيات الله الكبار، وتبعته، والعاقبة الملازمة له، هي ضعف قدرة تينك الديانتين على امتصاص الانشقاقات. وهكذا، فإن الكنيسة تخسر لجهة الجاذبية إزاء المؤمنين الباحثين عن مزيد من الحرية التأويلية. كما أن الاحتجاج يتخذ في هذه الحالات شكل توجهات واعتناقات جديدة أو انشقاقات، في حين أن المسيحية البروتستانتية أو الإسلام السّـني، الديانتين «اللامركزيتين»، تشهدان تكاثر المدارس والتسميات، تبعاً للتباينات الداخلية. عقائد أهل السُنَّة والبوذية أو الكنائس البروتستانتية، تملك قدرة على التهجين يشهد عليها نموها الديموغرافي، الناتج عن دخول «عناصر جديدة» فيها واعتناقها، غير أن تنوعها الداخلي يسير جنباً إلى جنب مع محدودية الرقابة التي تمارسها الوجوه التي تملك ولاية المؤمنين (أو السلطة) عليهم، وتتواكب بضعف قدرتها، من ثمَّ، على التعبئة على الصعيد العالمي.
يبقى أن العولمة تفاقم هذه الصعوبات، من حيث إنها تؤيد وتشجع منطق استقلالية الفاعلين، حتى ولو كانت تغذي النفوذ الديني، وتسهم في بروزه، وفي جعله ظاهراً مرئياً، فهي في المحصلة جعلت تكامل السلطان الديني مع الشيء السياسي، وانضواءه فيه أكثر تعقيداً وإشكالاً.

النفوذ الديني والعولمة
خصوصيات النفوذ الديني النوعية التي تجعل منه أداة سياسية قوية وقابلة للتشظّي، هي خصوصيات تؤيدها العولمة وتوقع الاضطراب فيها في آنٍ معاً. فالأديان التي هي مصدر انتماءات ومنبع تعبئات وتحشيدات عابرة للأوطان وللقوميات، لطالما كانت في الواقع، حمّالة لقاءات وعامل مبادلات على الصعيد العالمي، قبل أن تجد نفسها وقد تحولت وتغيرت بفعل الوجوه السياسية والتجارية والتكنولوجية للعولمة. فهذه الأخيرة تسهم في تطوير تقاطيع وتعرجات الطوائف والجماعات، وفي تغيّر صور وأشكال التعبئات الدينية. غير أن الظاهرتين ليستا براءً من منطقين متناقضين، كما أن التقاءهما يثير توترات بين الفينة والأخرى.
تلتقي الأديان، بما هي عوامل ونواقل حركية، مع العولمة في تكوين شبكاتٍ وطوائف وجماعات تخترق الحدود القومية، وتتعدّى منطق السيادة. وهي طالما سلكت المسالك ذاتها والسبل ذاتها قبل أن تحبس السياسة نفسها في منطق السيادة. فالحج الإسلامي السنوي إلى مكة كان تاريخياً، العامل الأول للهجرات الطوعية المؤقتة، التي كانت تفضي إلى لقاءات بين شعوب من المناطق الممتدة من غرب المتوسط إلى الشرق الأقصى. والبوذية والمسيحية أو الإسلام، هي أديان انتشرتعلى نحوٍ موازٍ لمنطق الفتح السياسي أو التوسّع التجاري، مستحدثة خلال ذلك مفاعيل وآثار تهجين ثقافي واسعة شاسعة.
والأشكال والصور المعاصرة من العولمة، تشبه ما كان، وما ظلّ طويلاً خاصة من خصائص الظاهرة الدينية، وعنصراً مكوّناً من عناصر نفوذها، أي شيوع تكوّن شبكات من الأفراد الذين يجمعهم جامع المشاركة في إيمانٍ أو في شعورٍ بالانتماء، من دون أن يكون الاتصال المادي الفيزيقي فيما بينهم ضرورة أو غاية لذلك. فهذه الشبكات تعيد تكوين الجماعات البشرية على نحوٍ مستقل عن ضروب المنطق السيادي والإقليمي، ولا تتفاعل مع السلطان السياسي إلا إذا دخلت معه في مواجهةِ ومجابهة، وحملت معها قوانين جديدة أو دعت إلى مفاهيم بديلة للمدينة (للمجتمع).
غير أن العولمة تطال من جهة ثانية، الممارسات التي يستند إليها النفوذ الديني، ذلك أن هذا الأخير يستغل الفرص التي توفرها استحالات وتحوّلات الممارسات التجارية والاتصالاتية، من جهة، وضعف المرجعيات ضعفاً من شأنه إنتاج الفوضى المعيارية وانعدام القيم الوازعة، ولاسيما تلك المتعلقة منها بالدولة، ويؤدي من جهةٍ أخرى، إلى البحث عن المعنى، بحثاً يجد ملاذه في الدين. وهكذا، فإننا نلاحظ «تثاقف» المنظمات الدينية مع العولمة، وتأثرها العميق بها، فتعبئة شبكات الاتصال الحديث من أجل التجنيد (كما تفعل «داعش» عبر الشبكات الاجتماعية)، والتتجيير الذي يتيح توليد موارد (وهو ما تمارسه «الكنائس المليونية الأميركية»)، أو استخدام مراجع أو سجلات أخرى بحسب الجمهور المستهدف (من البوذية زن، التي تُـمارس في حالات التنسّك في «جبل فوجي»، إلى نسختها الأميركية على الشواطئ الكاليفورنية)، وهي تشهد جميعها على هذا التثاقف. وانتشار التهجين في الممارسات الدينية أصبح في رأي ديفيد فيسيل/‏‏‏‏‏David Wessels ظاهرة من الظاهرات المكونة للعولمة، مثلها مثل الممارسات التجارية والسياسية أو التكنولوجيات.
غير أن ظاهرات التهجين المشار إليها هنا ليست بتلك الظاهرات التي لا تثير التوترات، بل إن التوترات تتركّز حول علاقات الانتماء والاستقلال الذاتي، التي تميّز الانتماءات الدينية عن ظاهرة العولمة.
تحمل العولمة، بسبب نزعتها نحو الكونية، فكرة الانتماءات التراكمية الطوعية، المرنة، أو السيّالة والبعيدة عن فكرة الانتماء الكلي الحصري، المضمرة في ضروب المنطق الديني. وإنما تتركز التوترات بين العولمة وبين الانتماء الديني، حول هذه العلاقة بين الكونية وبين الحصرية، الأمر الذي يفسر الجاذبية التي يمكن أن تكون للفضاء الديني بالنسبة إلى من خيبت العولمة آمالهم. فعندما يستجيب الدين للإحباطات الأرضية بوعوده بالمثوبة في العالم الآخر، فإنه إنما يقدم أمداً مغايراً، وزمانية مختلفة ومواقيت مباينة لزمانية ومواقيت العولمة. ثم إن أفق أو منظور الخروج من منطق الفورية والمباشرة التي توصِّف العالم المعاصر، هو أيضاً مصدرٌ من مصادر خيبة الأمل بالنسبة إلى الذين يلاحظون ويراقبون مفاعيله، من دون أن يفيدوامنها، وهو أيضاً نبض آخر من نوابض جاذبية الديني بالنسبة إلى الخاسرين من العولمة.
هكذا، فإن الديني يلعب دور السياق المضادّ والمثال المعاكس بالنسبة إلى أولئك الذين تثير العولمة قلقهم نتيجة لما تحدثه من اضطرابات في الهوية. وهكذا بتنا نشهد مفاعيل انكفاء نحو تصوّر صارم أو حصري ومفرد للديانة، يواجه القوم بها التهجين الثقافي المنظور إليه كتدخل عدائي لقيم ينظرون إليها على أنها قيم انحطاط، أو يواجهون بها المخاوف المتعلقة بالهوية، والتي تثيرها الهجرات، وهذه المفاعيل تخترق الديانات الكبرى كلها. فاطِّراحُ نتائج العولمة يمكن أن يفضي إلى «اعتزال» المجتمع أو النأي عنه وبه، كما هي حال منظّمة التبليغ الأصولية التي تندّد بكل التزام سياسي. غير أن هذه الضروب أو الأنواع من منطق الانكفاء، تجد أكثر ما تجد من الصدى لها، وعلى نحوٍ يمكن أن يفضي إلى سلوكات نزاع ومواجهات محتملة، عندما تلاقي دعماً سياسياً. وإذا كانت تنتشر وفقاً لدرجات مختلفة، وتبعاً لأنماط متنوعة، تنوّع القومية الهندوسية لحزب الشعب الهندي (BJP) في الهند، والتطرف البوذي لحركة 969 في بورما، ودعم بطريركية الروم الأرثوذكس في موسكو لقومية فلاديمير بوتين في روسيا، أو انبعاث أقصى اليمين في أوروبا الذي تضع «جماعاته» في مقدمة مطالبها التأويل الحصري للقيم المسيحية، إلا أن ضروب الانكفاء هذه، والسلوكات الناجمة عنها، تشترك جميعاً في كونها تستند إلى هوية دينية في تبرير اطِّراحها لـ«الآخر». غير أن هذه التقاربات والتضافرات بين الدين والقومية، تظل تصطدم بالحدود المشار إليها أعلاه: خصوصية النفوذ الديني، هي في إفلاته من فاعليه، بمجرد أن يجعل له هؤلاء تجسيداً سياسياً، باعتبار أن هذا التجسّد يحمل نقضه معه.
وإنما انبثقت المبادرات الهادفة إلى تنسيق أو اختيار تعبيرات دينية في الساحة العالمية، من أجل أخذ العلم وتنظيم الاحتجاجات الدينية على السلطان تنظيماً عابراً للأوطان وللقوميات، وإعراباً عن رفضها له، ومحاولة إدماج الديني في مشروعات الدول السياسية.

التأثير السياسي على الديني
جهد السياسيون الفاعلون، الواعون لإمكانية التأثير الذي قد تلجأ إليه الشبكات الدينية العابرة للأوطان والقوميات، وعملوا، انطلاقاً من ذلك، على تنظيم تعابير العامل الديني العابرة للأوطان والقوميات، حين واجهوا تصاعد قوة الاحتجاجات الدينية التي عزّزتها العولمة، من أجل الإمساك بها والتحكّم فيها. ونستطيع التمييز بين ثلاثة تعبيرات من تعابير هذه الظاهرة: الدبلوماسية الدينية، انبثاق تعددية دينية، ومحاولة الاختيار اختياراً داخلياً لتعابير دينية عابرة للأوطان وللقوميات، تتفق مع رؤية دولية للسياسة أو للشأن السياسي، لمنافسة الفعاليات والفاعلين الاحتجاجيين على أرضيتهم نفسها. وكما سبقت الإشارة، فإن الاستراتيجيات الثلاثة تصطدم بواقعة كون قدرة العامل الديني ونفوذه، إنما تكمن في قدرته على الانعتاق من السياسة.

دبلوماسياتٌ ببُعدٍ ديني
اعتماد دبلوماسية دينية تهدف بها الدول إلى نشر شبكات نفوذ، تؤاتي تمثلها وتصورها الخاص لدين ما، لطالما كانت وقفاً على الثيوقراطيات التي تستند إلى دين رسمي. وكان هذا حال الفاتيكان عبر ما يقارب المائة من القاصدين الرسوليين، أو حال الدول التي تموّل المؤسسات التربوية لنشر رؤيتها للإسلام، ذلك أن تعهد الشبكات الدينية، يسهم في ترسيخ نفوذ الدولة التي تعبّئ هذه الشبكات وتجنِّدها، ولكنها لا تُفلِح في فرض مقاربةٍ موحدة للدين عليها، نظراً لغياب منظومة سلطة تكون على جانبٍ من المركزية، كتلك المتوافرة للكنيسة الكاثوليكية. وهكذا مثلاً، فإن حركة فتح الله غولين التركي الأصل (الإصلاحية الإسلامية)، هي حركةٌ لها حضورها عبر المؤسسات الثقافية والمنظمات الإنسانية، في 160 بلداً، على الرغم من مواجهة نظام الرئيس أردوغان لها.
ثم إن عودة الموضوعات الدينية إلى الظهور، منذ بداية سنوات 2000، في السياسة الخارجية الرسمية لدولٍ تعتبر علمانية، هي بُعدٌ آخر من أبعاد إرادة الفاعلين السياسيين، بأن يجعلوا من هذا العامل وسيلة وهدفاً لاستراتيجيتهم، وليس مجرد مصدر للقسر أو للإلهام، تبعاً لرغبة بعض المسؤولين السياسيين. كانت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت تنتقد الغشاوة التي تعمي بصر الدبلوماسيين إزاء قوة نفوذ الأديان القادرة في رأيها على الإسهام في حلّ النزاعات، مبشرةً من جانبها بدبلوماسية تتأسس على الإيمان. والخطاب الذي وجّهه الرئيس أوباما إلى «العالم الإسلامي» من جامعة القاهرة، في يونيو 2009، شكّل خطوة رمزية في هذا الاتجاه، فللمرة الأولى يتوجّه قائد أول قوة سياسية عالمية عظمى إلى أقوام من الناس على أساس هويتهم الدينية، مؤكداً على القوة التي تُعزى إلى هذا العامل. وفي فرنسا نفسها كان «قُطب الأديان» الذي أنشأته وزارة الشؤون الخارجية، ولكنه مرّ سريعاً مرور الكرام، يندرج من ضمن إرادة مماثلة لأخذ دور العامل الديني بعين الاعتبار في صوغ السياسة الخارجية، بقصد محاولة التحكم بالتعابير التي تفلت من أولوية الشيء السياسي.

الحوار بين الأديان
تصطدم محاولات الإبحار والارتحال أو الالتفاف من الخارج على تعابير النفوذ الديني، العابرة للأوطان والقوميات، بصعوبات التحكم بظاهرة اجتماعية تقوم في أساسها على انتسابات والتزامات فردية، تأتي خارج السياسة، بل وفي الوجهة المضادة لها. والحق أن هذه الملاحظة تفسّر تكاثر المبادرات التي تميل إلى أن تكون غير مباشرة، وقوامها اختيار الفاعلين أو العاملينالدينين من بين أصحاب المقاربة التي تتفق مع النظام البيني (أو المابين الدول) اختياراً داخلياً يجرونه فيما بينهم. فمنذ مطلع القرن الحادي والعشرين، ونحن نشهد تكاثراً مشهوداً في مبادرات الحوار فيما بين الأديان، التي ترعاها الدول أو تدعمها المنظمات المتعددة الأطراف، على شكل محافل نقاش، أو على شكل لقاءات مؤسسية تندرج ضمن ذات المنطق. مبادرة فتح حوار بين ممثلي مختلف الطوائف، ليس فيها شيءٌ جديد، غير أن التشجيع السياسي على مثل هذه المبادرات التي يفترض بها أن تُطلق تصوراً «معتدلاً» للديانة (أي تصوراً يحترم أولوية المؤسسات السياسية) بات يميِّز عالم ما بعد 11 سبتمبر، الذي يتسم بالوعي السياسي لطاقة وقدرة المجموعات ذات البعد الديني على تقويض الاستقرار، وبالتصميم على معاودة احتلال هذا الحقل. وهكذا فإن أعضاء الأمم المتحدة يهتمون كذلك بدور الحوار فيما بين الأديان، في حلّ النزاعات، والحيلولة دون وقوعها، كما يهتمون بدفع المبادرات في هذا الاتجاه، كتنفيذ برنامج على سبيل المثال من برامج اليونسكو مكرّس للحوار بين الأديان.
واللافت في فضاء الحوار بين الأديان، أن الدبلوماسية الإندونيسية تبرز من جهتها، ومنذ العام 2003، فكرة «إعطاء السلطة للمعتدلين»، باختيارهم اختياراً ذاتياً، ومن داخل صفوفهم، وبتشجيع أنصهارهم واندماجهم الدولي، ولاسيما عبر مشاركتهم في مبادرات الحوار بين الأديان، بما يتيح منافسة المنظمات الراديكالية والمقوّضة للاستقرار، على أرضيتها ذاتها، بإعطاء الأفضلية لمقاربة دينية تتفق مع رؤية السلطات.
يبقى أن جملة المبادرات المشار إليها تعاني من معضلة كبرى مُحكمة الإغلاق، ذلك أنه سواء أكانت الدول راعية لهذه المبادرات أم منفّذة لها، فإنها غالباً ما تفشل في مجابهة وإفشال المنطق الاحتجاجي للنفوذ الديني، بل إنها تنزع إلى تعزيزه وتدعيمه. وبما أن هذا الأخير يجد نفسه وقد اجتاحه الحقل السياسي، مضطراً للتموضع على هذه الأرضية، وبما في ذلك في الحيِّز الذي يتخذفيه موقعاً منكفئاً. ثم إن هذه البادرات تنزع بخلاف ذلك، إلى تعميم شبكة أو منهج التأويل الديني للسياسة العالمية، وهي شبكة أو منهج يصعب الخروج منهما، متى جرت تعبئتهما وتجنيدهما.

العلاقة بين السياسة والدين
يستند العامل الديني، وإلى حدٍ بعيد، إلى استقلاليته إزاء الشأن السياسي. ثم إن أشكال وصور هذه الاستقلالية تتطوّر تبعاً لمحاولات تنسيق السلطان السياسي للعامل الديني، أو لإضفاء المشروعية الدينية على البرنامج الزمني أو على جدول الأعمال الدنيوي. وعلى هذا، فإن من شأنها أن تفضي إلى منطق انسحاب أو إلى العكس من ذلك، أي إلى التزام احتجاجي معارض، يمكن أن يفضي على التوالي وعلى التناوب، إلى المطالبة بممارسة السلطان أو بممارسة العنف.
استقلالية الديني هذه، التي تجعل منه أداة احتجاج جبارة، هي في قلب العلاقة الدينامية مع السلطة السياسية. فكائناً ما كانت أنماط التعبئة السياسية وأنماط التجنيد السياسي للنفوذ الديني، فإن ترجمته إلى برنامج أو إلى جدول أعمال للحكومة، تفرض عليه قسريات تجعله يفقد دعوى النقاء التي تؤسس مشروعيته. وإنما هو هذا التناقض المربك الذي لا مخرج له، ولا مخرج منه، هو ما يشير إليه ويؤكده «أوليفيه روا» في كتابه «فشل الإسلام السياسي».
هكذا، يفقد الديني حين يكون في السلطة قيمته كملاذ للمحبطين ومأوى لمن خاب أملهم في النظام المسيطر، الذي ينتج بممارسته نفسها احتجاجاً جديداً. وأشكال وزمانية هذا الاحتجاج، تكون تابعة لدرجة المأسسة، وبالتالي للتماسك الداخلي لكل دين، التماسك الذي يقود العلاقة بين المشروعية الدينية وممارسة السلطة السياسية.

مأسسة التعددية الدينية
جهدت دول عدة من أجل تأسيس أشكال مؤسّسية من التعاون المتعدّد الأطراف، المؤسس على مرجعية دينية، وذلك لمواجهة محاولات استقلالية الفاعلين الذين يدعون مشروعية دينية، غالباً ما تكون احتجاجية، ومن أجل الحفاظ على أولوية السياسة والشأن السياسي. وكان التعبير المؤسسي الأنجح لهذه الاستراتيجية، هو تأسيس «منظمة المؤتمر الإسلامي» في العام 1969، وذلك من خلال سياق الفراغ الثلاثي الناجم عن نهاية الخلافة العثمانية بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وعن فشل القومية العربية إزاء تصاعد قوة الحركات الإسلامية، وعن الحاجة إلى التنسيق على أثر هزيمة يونيو 1967 وحريق المسجد الأقصى. كانت «منظمة المؤتمر الإسلامي» التي جرى تقديمها كـ«صوت جماعي للعالم الإسلامي» تقول إنها توفق بين المرجعية الدينية، من حيث إنها معيار الانتساب الى المنظمة، وبين التمثيل البيْني (أو الما - بين الدول). ولطالما جرت الإشارة، وبصورة منتظمة، إلى الإسلام، الذي هو الديانة المشتركة بين السبع وخمسين دولة الأعضاء في هذه المنظمة، بصفته الأساس الذي يقوم عليه اتخاذ قراراتها. غير أن نشاط المنظمة، وهي المصممة على الحفاظ على الصلاحيات والامتيازات السيادية للدول الأعضاء، يظل ضمن الصعيد السياسي المحض. وبالنظر إلى الشقاقات السياسية القائمة بين البلدان المسلمة في غالبيتها، فإن فعالية هذه المنظمة، لا تزال تقتصر على تنسيق المواقف حول موضوعات تُـجمع عليها الدول الأعضاء (يضطلع الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني بهذا الخصوص بدور اللحمة) أو على تقدم ضروب التعاون بين الأعضاء في المجال الاقتصادي الذي يُعتبر أقل حساسية.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©