الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الفرح.. حَياة

الفرح.. حَياة
20 ديسمبر 2018 01:30

د. حورية الظل

ما هو الفرح؟ وما السبل التي على الإنسان أن يسلكها ليمتلك قوة هذا الفرح؟ ذلك ما تناوله الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي فريديريك لونوار «من مواليد 1962»، في كتابه «قوة الفرح»، واستعان في دراسته هذه حسب تعبيره على: «فلاسفة كبار وضعوا الفرح في قلب فكرهم، مثل سبينوزا ونيتشه وبرغسون، ومن خلالهم سنبدأ طريقنا، وسنسعى لفهم تجربة الفرح من وجهة نظر فلسفية» لكنه اتخذ تجربته الخاصة أيضاً مرجعاً مهماً في دراسته للفرح وأكد ذلك بقوله: «لا يمكن أن نواصل هذا المسعى من دون الرجوع إلى تجاربنا الخاصة، ولذلك سأستند أنا أيضاً على حكايتي، على مشاعري ومعتقداتي الشخصية. وسأحاول أن أوضح، وبطريقة ملموسة الطريق لمعرفة الفرح».
وهذه شذريات من الكتاب، لعلها تمكننا من فهم المسارات الموصلة للفرح، ومن هذه المسارات، المحبة والعطاء دون انتظار مقابل، فكلما بذل الإنسان جهداً إيجابياً وذا أهداف نبيلة، تكون جائزته العتيدة هي الفرح والانتصار والسمو.

الفرح تأكيد على الحياة، تجلٍ لقوتنا الحيوية، هو الوسيلة التي نتيقن عن طريقها من حقيقة وجودنا ونتذوق عبرها هذا الوجود.
***
ما من شيء يجعلنا نشعر أننا أحياء مثل تجربة الفرح.
***
ثمة عدد من المواقف وطريقة في الوجود تسمح لنا بتهيئة الأرض الخصبة الملائمة لاستقبال الفرح سأذكر بعضها، لكن بوسعنا أن نزيد عليها مواقف وحالات أخرى: الانتباه، الحضور، التأمل، الثقة، انفتاح القلب، الخيرية، المنح من دون انتظار المقابل، الشكر، المثابرة.
***
في نهاية العملية العقلية المرتبطة بالتحرر من الأهواء المحزنة ذات الصلة بأفكارنا غير الملائمة، نبلغ نوعاً ثالثاً من المعرفة (بعد الرأي والعقل)، وهي المعرفة الحدسية، تتيح لنا هذه المعرفة فهم العلاقة بين شيء محدود وشيء آخر لا حد له، وهذا يمكننا أن نفهم طبيعة التوافق بين عالمنا الداخلي الذي ينظمه العقل، وبين الكائن ككل شامل، وبين كوننا الخاص وبين الكون الأكبر (بيننا وبين الله، الذي يعتبر متطابقاً... مع الجوهر غير المحدود)، هذا الفهم الحدسي هو مصدر أكبر فرح يمكن تحقيقه كما يكتب سبينوزا: «إنما يعود ما يمكن أن ندركه من خير أسمى ومن غبطة إلى معرفة الله وحبه».
هناك مساران يقوداننا إلى تجربة فرح أكثر دواماً، أولهما مسار التحرر الداخلي الذي يسمح لنا بالتدريج بالتعرف إلى ذاتنا الحقيقية، ومسار آخر... هو مسار الحب الذي يسمح لنا بالتواصل مع العالم ومع الآخرين بطريقة كاملة وصحيحة.
***
يكتب برغسون: «تنبهنا الطبيعة عبر إشارة بعينها أننا قد بلغنا غايتنا، الفرح هو تلك الإشارة».
***
الأهواء هي مصدر كل الصراعات على اختلافها، والإنسان الذي ينجح في تجاوز أهوائه ويحولها إلى أفراح فعالة يكف عن إلحاق الضرر بالآخر، ينتصر حينها على ما يوجد بذاته من أنانية وغيرة وحسد وحاجة إلى السيطرة وخشية من الفقد وعدم تقدير الذات أو المبالغة في تقديرها، ينتصر باختصار على كل ما يخلق الصراعات بين الأفراد والحروب بين الشعوب.
***
قال جورج برناسوس: «أن تفرح لفرح غيرك هذا هو سر السعادة».
***
الفرح نوع من اللذة المتضاعفة أضعافاً كثيرة، لذة أكثر كثافة، أكثر شمولاً وأكثر عمقاً، في معظم الوقت يأتي الفرح، مثله مثل اللذة استجابة لمثير خارجي.
***
أي حدث يعمل على تطويرنا ويضاعف من قوتنا الحيوية ويشدنا إلى أعلى يضعنا في حالة من الفرح.
***
الفرح في الأغلب مفاجئ، كثيف وغزير، يهزنا ويحملنا، ويستولي على جسدنا ويتحكم فيه، نرفع أيدينا إلى السماء، نرقص، نقفز ونغني.
***
يعرف سبينوزا الفرح باعتباره: «انتقال المرء من كمال أقل إلى كمال أكبر» وهو يعني بهذا أنه في كل مرة ننمو ونكبر، نتطور ونحقق انتصاراً ونحقق قدراً أكبر وفقاً لطبيعتنا الخاصة، نكون في حالة من الفرح.
***
هناك متع تتعلق أكثر بالداخل، مصدرها القلب أو النفس، كأن... أستغرق في قراءة كتاب يروقني أو أسمع موسيقا أنفعل معها، أو أتم عملاً كان يشغلني، ذلك كله يجعلني أستمتع، لا يمكن أن نحيا دون الشعور باللذة: وهكذا يمكن تلخيص حياتنا باعتبارها واجباً لا ينتهي يتعين علينا إنجازه لتحقيق هذا الشعور.
***
إن نظرتنا عن العالم ليست هي العالم، إنما في تصورنا الذي كوناه في أنفسنا عن العالم، حينما يسعد رجل ما في مكان ما، فسيكون الرجل نفسه سعيداً أينما يحل، ورجل ما تعيس في مكان ما سيصير تعيساً أينما يحل.
***
يتسبب عدم الإحساس بالفرح في ألم معنوي كبير.. فبوسع هذا الألم أن يخمد بداخلنا أي قدرة على الحياة.
***
الفرح لا يُؤمر، لكن تتم دعوته، لا تصدر قراراً بالفرح فتفرح هكذا فجأة، تغيب أي سيطرة على هذا الشعور الذي لا يتحقق إلا عند اجتماع بعض الشروط.
***
لاحظ برغسون أن الأفراح الكبيرة، أفراح مبدعة... ودائماً ما تكون ثمرة جهد ما: «تحرض المادة على بذل الجهد وتجعله ممكناً، ولا يستحق الفكر الذي يظل مجرد فكر والعمل الفني الذي لا يغادر الذهن، والقصيدة التي لم تبارح الحلم، كل ذلك لا يستحق العناء، لكن التجسيد المادي للقصيدة في كلمات، والتصور الفني الذي يتجسد على شكل تمثال أو لوحة، يتطلبان جهداً، الجهد أمر شاق لكنه عظيم القدر أيضاً، أكثر قيمة من العمل الفني الذي انتهى إليه، لأن بفضله نستخرج من ذاتنا أكثر مما تحويه بالفعل، بل نتجاوز ذاتنا».
***
تعد المثابرة في الجهد حتى ننجز مشروعاً مصدراً دائما للفرح.
***
يرتبط الفرح بتطور الوعي، وبالمجهود الذي يبذله هذا الوعي لتجاوز الغضب والكرب والتوتر، كما يرتبط أيضاً بما تحقق من انتصار.
***
لنفرح لا بد أن نتعلم كيف نحل قيود عبوديتنا الداخلية... نتحرر من طواغيتنا الداخلية ليس فقط لبلوغ الفرح لكن لكي نحسّن من العالم.
***
أن يحركك الفرح وأن تشعر بالتناغم مع كل ما يحيط بك، وتتضمن كل تجربة جمالية هذه الإمكانية: تأمل عمل فني يؤثر فينا، التوقف أمام جمال الطبيعة، يصلنا بهذا الشيء الذي يتجاوزنا ويدفعنا إلى السمو وتخطي ذاتنا، يعمل التأمل على ترقيتنا ويساعد على بزوغ الجزء الأكثر نبلاً في أنفسنا، وقد اعتبره أرسطو الجزء الأكثر صدقاً لتحقيق السعادة والفرح.
***
نحن مثل الزهور يمكنها أن تذبل بسبب بعض أنواع التربة وبعض الأماكن التي نضعها فيها، وبعضها الآخر يمكنه أن يساعدها على النمو، وهو ما تفعله العلاقات الصحيحة، تلك العلاقات التي تحافظ على شعلة الفرح.
***
أشار اليونانيون إلى فكرة «التوافق مع العالم» بطريقة متناغمة وضرورة أن تكون مواكباً له، وأن تدخل نفسك في مسيرة الحياة.... يعني التوافق مع العالم، أن نتوافق مع المقربين منا، المدينة والطبيعة والكون، يعني رفض تدمير الكوكب واستلابه، يعني أن تعقد علاقات محترمة مع كل الكائنات الحية، فيحركك الفرح وتشعر بالتناغم مع كل ما يحيط بك.
***
يكتب أفلوطين: «حين تبتعد الروح عن الأشياء الحاضرة، ترى فجأة الخير يظهر داخلها، وليس ثمة شيء يحول بينها وبينه، ويكفان عن أن يكونا اثنين، بل يصير الاثنان واحداً».
***
لو سلكنا طريق الشراكة مع الآخرين ومع العالم... فرح التأمل وفرح الهبة نقطة مشتركة، ففي غضون لحظة أو لمدة أطول ينسى الفرد نفسه ويكف عن التفكير في ذاته وفي المتاعب اليومية، يفجر الحب الحقيقي والتأمل حدود أناه الضيقة ويقلصانها، ليفتحا أمامها بعداً كونياً، ربانياً، أياً كان الاسم الذي نطلقه على هذه التجربة من تعالي الذات.
***
في كتابه «منبعا الأخلاق والدين» قدم برغسون تحليلاً لافتاً جداً للظاهرة الصوفية، فقد أكد أن الأفراح الكبيرة هي الأفراح التي يعيشها الصوفيون... حين يتجاوزون الحدود الضيقة لأناهم ويتركون أنفسهم للانطلاقة الخلاقة للحياة، وأوضح برغسون كذلك أن هذه حالة تخص المبدعين فهم يتحدون مع مجرى الحياة، ومع الانطلاق الحيوي الذي يتخلل كل حركة الحياة، ول أننا نحصر أنفسنا في ذاتنا الضئيلة ونتقيد بطموحاتنا الشخصية الصغيرة، لا ندخل في مثل هذا الانطلاق ونبقى بعيدين عن تدفق الحياة الذي ليس إلا فرحاً وإبداعاً.
***
تعد التجربة الموسيقية ذات طبيعة كونية، صوفية وقادرة على إخراجنا من ذاتنا، من إحساسنا الفردي وتزيد من امتدادنا لنلحق بالكوني ويمكنها، بسماحها لنا بالاتحاد مع شيء يتجاوزنا – مثل التناغم والجمال- أن تدخلنا في واحدة من أجمل تجارب الفرح. ما يعبر عنه نيتشه ويشدد عليه حين يستدعي ما تحدثه الموسيقا من نشوة ديونيسوسية: «نتذوق سعادة الحياة ليس باعتبارها أفراداً، لكن مثل مادة حية، واحدة، ممزوجة بفرحها الخلاق».
***
يسمح لنا الجهد الذي نبذله في التحرر الداخلي (الانفصال وفك الارتباط) والتشارك مع العالم على وجه صحيح بالكف عن اعتبار الذات والذهن القائدين الوحيدين لوجودنا. نكف عن التماهي مع ذاتنا، وتحل معرفة أنفسنا والعالم العقلانية والحدسية محل التصورات الذهنية، في هذه الحالة نصير ذاتنا على نحو كامل، ويوحدنا مثل هذا الشعور من الكلية مع الآخرين ومع العالم، مع الكون ومع الإلهي، ولا شيء يمكن أن ينال منا طالما أننا توقفنا عن استخلاص أحزاننا وأفراحنا من ذاتنا، وينتج عن هذا فرح أكثر بكثير من كل الأفراح التي من المحتمل أن نكون قد عرفناها من قبل.
***
نعيش أفراحاً خالصة في كل مرة نضع فيها أذهاننا وذواتنا جانباً ولو لفترة وجيزة.
***
ليس الفرح الكامل مكافأة نحصل عليها في مسابقة، إنما هو نعمة تصاحبنا طوال طريق الحرية والحب الذي نقصده.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©